هو أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، مولده ونشأته بالري، سافر إلى بغداد وأقام بها مدة، وكان قدومه بغداد، وله مِنَ العمر نيف وثلاثون سنة، وكان من صغره مشتهيًا للعلوم العقلية مشتغلًا بها وبعلم الأدب، وأما صناعة الطب فإنه تَعَلَّمَهَا وقد كَبر، وكان المعلم له في ذلك علي بن الطبري([1]).

وعن الرازي قال ابن النديم في كتابه الفهرست: (إن الرازي أوحد دهره وفريد عصره قد جَمَعَ المعرفة بعلوم القدماء وسيما الطب، وكان ينتقل في البلدان)([2]).

ولقد كان حظ الرازي أوفى من حظ أترابه علماء الطب في انتشار اسمه وشهرته، وقد يكون مرد ذلك إلى أنه مارس الفلسفة في مقتبل عمره على نطاق واسع، إضافة إلى ولعه بالعلوم والدراسات الموسيقية، فاشْتُهِرَ بالفيلسوف والموسيقي قبل ممارسته للطب والجراحة، كما أنه ألف الكثير من الكتب في مجال الفلسفة، وكان مؤرخًا مرموقًا([3]).

وفي هذا البحث أوَدّ التركيز على جانب هام من الجوانب العلمية للرازي، وهو الصيدلي، وكيف نهض بعلم الصيدلة ومؤلفاته المختلفة في هذا المجال، وأثرها على المسلمين والأوربيين.

ولقد أقبل الرازي على دراسة كتب الطب والفلسفة وكتب جالينوس وأبقراط وحكماء الهنود، ويسرت له دراسة كتب الطب سعة اطلاعه على الطبيعيات والكيمياء([4]).

رحل الرازي من الري مسقط رأسه إلى بغداد عاصمة العلم، ثم عاد إلى الري تلبية لطلب أميرها منصور بن إسحق حيث تولى إدارة بيمارستان مدينة الري، وظل الرازي يدير أمور البيمارستان إلى أن استدعاه الخليفة المعتضد بالله العباسي، وأسند إليه أمور البيمارستان العضدي، فشيده الرازي له على أحدث مستوى، وأدار أموره([5]).

وللرازي العديد من المؤلفات أشهرها جميعا كتاب (الحاوي) الذي يقع في عشرين مجلدًا، ويبحث في كل نوع من فروع العلم، وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية، وظل عدة قرون أعظم الكتب الطبية، وأهم مرجع لهذا العلم في بلاد الرجل الأبيض، وكان من الكتب التسعة التي تتألف منها مكتبة الكلية الطبية في جامعة باريس([6]).

ويتكون كتاب الحاوي من قسمين يبحث الأول في الأقراباذين، والثاني في ملاحظة سريرية تتعلق بسير المرض مع العلاج المستعمل، وتطور حالة المريض ونتيجة العلاج([7]).

 تصنيف العقاقير عند الرازي في الحاوي

لقد وضع الرازي أسسًا صحيحة لعدة علوم صيدلانية وبين أوصافها، وطرق تحضيرها وكشف غشها وقوامها وبدائلها والمدة الزمنية التي يمكن أن تحفظ خلالها، وصنف الرازي العقاقير إلى أربعة أقسام هي:

مواد ترابية، معادن، مواد نباتية، مواد حيوانية، عقاقير مولدة (مشتقات)، ووضع تحت المواد الترابية (المعادن) سبعة أنواع.

أما الصنف الثاني وهو المواد النباتية فذكر قوى الحبوب، ورتب فيه الأدوية حسب حروف المعجم، وفيما يتعلق بالمواد الحيوانية ذكر البيض واللبن والمخ والشعر والدم والصرف والقرون والمرارة.

أما العقاقير المولدة أو المشتقات فقد ذكر منها أكسيد الرصاص، وأكسيد الرصاص الأحمر والزنجار وهي خلات النحاس([8]).

والرازي من أوائل من وصفوا بدقة تامة مرَض الجُدَرِي والحصبة، وهو صاحب رسالة من أشهر الرسالات في الجدري والحصبة؛ حيث فَرَّق بين الجدرى والحصبة، وكشف عن أعراض كل مرض على حدة، وتبين له من خلال الملاحظات الدقيقة أن ارتفاع الحرارة يساعد على انتشار الطفح وهى ملاحظة قيمة([9]).

وعن كتاب الحاوي يذكر ابن أبي أصيبعة «أنه أجل كتب الرازي وأعظمها في صناعة الطب، وذلك أنه جمع فيه كل ما وجده متفرقًا في ذكر الأمراض ومداواتها عن سائر الكتب الطبية للمتقدمين ومن أتى بعدهم إلى زمانه»([10]).

وللرازي كتاب آخر لا يقل في الأهمية والشهرة عن كتاب الحاوي وهو كتاب (المنصوري) ألفه للأمير منصور بن إسحق بن إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان، وتحرى فيه الاختصار والإيجاز مع جمعه لجمل وجوامع وعيون من صناعة الطب علمها وعملها، وهو عشر مقالات نذكر منها ما يخص الصيدلة والمداواة، فالمقالة الثالثة في قوى الأغذية والأدوية المفردة، جعلها في خمسة وعشرين بابًا تشمل فصولًا في قوى الحبوب، كالحنطة والشعير، وقوى الشراب واللبن والزبد والجبن وقوى الثمار.

وفي المقالة الخامسة: تكلم في الزينة والمحافظة على جمال الوجه والاهتمام بعلاج النمش والعدس والكلف والجزام، وغير ذلك من الأمراض الجلدية، وطرق المحافظة على شعر الرأس وعلاجه وتقويته، وعلاج ابتداء الصلع وتجعد الشعر، وفي حفظ الأسنان ونظافتها وما يعين على تقوية البدن.

وفي المقالة السادسة: في إرشاد المسافرين على المحافظة على الصحة من جهة الغذاء والدواء وتغيير الأماكن والهواء، والمقالة تقع في عشرين فصلا. أما المقالة السابعة فهي تقع في 28 فصلًا في علاج الجراحات والقروح وتنظيفها باليد. والمقالة التاسعة في وصف الأمراض الحادثة وطريقة علاجها والدواء النافع لها. أما المقالة العاشرة فهي تقع في ثلاث وثلاثين فصلًا، فهي في أنواع الحميات التي تصيب الإنسان وطريقة علاجها، والدواء المفيد لكل نوع من أنواع الحميات([11]).

ومن مؤلفات الرازي الهامة (كتاب من لا يحضره طبيب) وقد وضعه ليؤدي خدمة كبرى للفقراء الذين لا يستطيعون إحضار الطبيب لفحص مرضاهم والقيام بمعالجتهم، لذلك أطلق على الكتاب كتاب طب الفقراء، وفيه يشرح كيفية معالجة المرضى، ولا شك أن هذا الصنيع يدل على الجانب الإنساني العظيم الذي عُرِفَ به الرازي([12]).

ومما يدل على عبقرية الرازي الطبية إشارته إلى اختلاف خطوط عروض البلدان، وأثر ذلك في العلوم ومزاج الجسم، فقال بانتقال الكواكب الثابتة في الطول والعرض، وتنتقل الأخلاق والمزاجات، وباختلاف عروض البلدان تختلف المزاجات والأخلاق والعادات وطباع الأدوية والأغذية، حتى يكون ما في الدرجة الثانية من الأدوية في الرابعة، وما في الرابعة في الثانية([13]).

ومن مؤلفات الرازي أيضًا كتاب منافع الأغذية، وكتاب دفع مضار الأغذية وغيرها. وله أيضًا كتاب الجامع، ويسمى حاصر صناعه الطب، وهو ينقسم إلى اثني عشر قسمًا، القسم الثاني منها في قوى الأغذية والأدوية وما يحتاج إليها، والثالث في الأدوية المركبة، والرابع فيما يحتاج إليه من الطبيب في سحق الأدوية وإحراقها وتصعيداتها وغسلها، واستخراج قواها وحفظها، أما القسم الخامس من الكتاب فهو في صيدلة الطب وفيه صفة الأدوية وألوانها وطعومها وروائحها ومعادنها وجيدها ورديئها، ونحو ذلك من علل الصيدلة، والقسم السادس من الكتاب في إبدال الأدوية، والسابع في تفسير الأسماء والأوزان والمكاييل التي للعقاقير، وتسمية الأعضاء والأدواء باللغات اليونانية والسريانية والفارسية والهندية والعربية([14]).

ومن أشهر كتب الرازي أيضًا (كتاب الفاخر في الطب) وهو كتاب جيد استوعب فيه ذكر الأمراض ومداواتها([15])، ومن كتبه (الأقراباذين الكبير) والأقراباذين المختصر، والتداوي من النزلة، ومنافع الخل الممزوج بالعسل([16]).

وبعد هذا العرض المختصر لمؤلفات الرازي، والتي ركزت فيها على عرض ما يخص الصيدلة والمداواة في هذا المؤلفات وفي غيرها، أود التحدث عن الجديد الذي أضافه الرازي في مجال الصيدلة وإنجازاته في هذا المجال:

إن الرازي هو أول من استخدم القردة الحية لإجراء تجاربه الدوائية عليها لمعرفة تأثير بعض الأدوية في أجسامها، قبل تجريب هذا التأثير على الإنسان، والرازي كطبيب معالج كان يتتبع تأثير اختباره للدواء الذي يعطيه لبعض مرضاه في علة ما ويحجبه عن بعضهم الآخر في العلة ذاتها، ثم ينكب على دراسة نتائج هذا الاختبار ليعرف مدى فاعلية الدواء وأثره في المرضى والمرض تمامًا كما نفعل اليوم المؤسسات العلمية الدوائية([17]).

ومن أقوال الرازي المأثورة في مجال العلاج والصيدلة والتداوي

– مهما قدرت أن تعالج بدواء مفرد فلا تعالج بدواء مركب.

– الحقيقة في الطب غاية لا تدرك، والعلاج بما تنص عليه الكتب دون أعمال الماهر الحكيم خطر.

– إن استطاع الحكيم أن يعالج بالأغذية دون الأدوية فقد وافق السعادة([18]).

 الرازي الكيميائي وأثره في علم الصيدلة

وهناك جوانب أخرى من حياة الرازي لا بد من إلقاء الضوء عليها، وهو الرازي الكيميائي وأثره في تطور وازدهار علم الصيدلة في العصر الإسلامي.

لقد أمضى الرازي جل وقته في مقتبل عمره بالكيمياء القديمة (السيمياء)، وتوصل إلى تحضير بعض السبائك التي تشبه الذهب، والحقيقة أن الكيمياء التي استهدفت الحصول على الذهب والفضة من العناصر البخسة قد خدمت علم الكيمياء خدمات جليلة، وذلك عن طريق إجراء التجارب العديدة واستخدام المواد المختلفة والتوصل إلى مواد كيمياوية جديدة.

إن معلومات الرازي في الكيمياء قد جاءته عن طريق الطب، وينطوي هذا القول على كثير من الصحة؛ إذ لا بد للطبيب البارع أن يحضر الأدوية والعقاقير والمراهم وغيرها، ولا يمكن عمل ذلك إلا عن طريق التجارب المختبرية العلمية، وربما احتفظ الطبيب ببعض طرائق تحضير العقاقير سرًّا من أسرار مهنته.

لقد تأثر الرازي بما قرأه من كتب جابر بن حيان في الكيمياء، وذكر هولمبارد أن الرازي كغيره من أطباء عصره مال إلى دراسة الكيمياء لعلاقتها الوثيقة بالطب، وعمل على تحضير الأدوية والعقاقير وألف في الكيمياء كتبًا عديدة أهمها كتاب «سر الأسرار»([19])، والذي ضمنه المنهاج الذي يسير عليه في إجراء تجاربه، فكان يبدأ بوصف المواد التي يشتغل بها، ثم يضيف الأدوات والآلات التي يستعملها، وبعد ذلك يضيف الطريقة التي يتبعها في تحضير المركبات([20]).

لقد وصف الرازي في كتابه ما يزيد على عشرين جهازًا، منها الزجاجي ومنها المعدني، وكان وصفة للأجهزة مميزًا، ذكر فيه تفاصيلها الدقيقة([21]).

ومن أهم هذه الأدوات والأجهزة: الإنبيق الذي يتكون من قرعة وأنبوبة وقابلة وبوط والبوتقة، والراط والتنور والكور والأثال، ثم في القسم الثالث من الكتاب استعرض أهم الطرق الموصلة إلى إعداد الخمائر المطلوبة([22]).

واستحضر الرازي بعض الحوامض، ولا تزال الطرق التي استخدمها موجودة حتى الآن، فذكر حامض الكبريتيك وسماه زيت الزاج الأخضر، واستخرج الكحول باستقطار مواد نشوية وسكرية مختمرة، وكان يستعمله في الصيدليات لاستخراج الأدوية والعلاجات، كما اشتغل الرازي في حساب الكثافات النوعية للسوائل، واستعمل لذلك ميزانًا خاصًّا سماه الميزان الطبيعي([23]).

لقد تمكن الرازي في أغلب الأحيان من التمييز بين العناصر الفلزية وغيرها، ويعتبر الرازي دون شك هو المؤسس الحقيقي لعلم الكيمياء العلاجية والعقاقير([24])؛ لأنه له فضل كبير في استعانته بعلم الكيمياء لخدمة الطب؛ إذ كان ينسب الشفاء إلى التفاعلات الكيميائية التي تجري في الجسم البشري([25]).

كما نجح الرازي في تحضير بعض العقاقير الجديدة، من خلال بعض العمليات الكيميائية من تقطير وتصعيد لعدة مواد طبيعية، وبهذا حقق فتحًا علميًّا جديدًا إلى جانب فتوحاته الأخرى، فقد تمكن من دراسة خصائص الزئبق ومركباته واستحضرها، كما اهتم بالأفيون والحشيش في عمليات التخدير([26]).

لقد سلك الرازي في تجاربه مسلكًا علميًّا خالصًا، وهذا ما جعل لبحوثه في الكيمياء قيمة دفعت بعض الباحثين إلى القول «بأن الرازي هو مؤسس الكيمياء الحديثة في الشرق والغرب معًا»([27]).

لقد كان الرازي ملمًّا بآراء مَنْ سَبَقَهُ في الكيمياء، ولكنه اختلف عنهم، وقدم تقسيمًا منطقيًّا للعناصر المعروفة لديه، وأعطى أوصافًا دقيقة للأدوات والطرق التي استخدمها في تجاربه العلمية، وتوصل من خلال ذلك إلى نتائج دقيقة مبنية على ملاحظاته هو نفسه([28]).

لقد كان الرازي أول من أشار إلى ما يحصل من تفاعلات كيميائية في جسم الإنسان وحالته الصحية، وما يعتريه من الأمراض.

والرازي أول من صنع وركب المَرَاهم من الزئبق لمعالجة قمل الأهداب، وهو أوَّل من استخدم بعض المستحضرات الكيميائية عن طريق تقطير المواد النشوية، والسكرية لاستخدامها في صنع بعض الأدوية، وفي العلاج، وفي تطهير بعض الجروح والأدوات الجراحية.

ويرجع الفضل للرازي في تحضير بعض السوائل السامة من روح النشادر.

كما ميز الرازي بين المحلول الحقيقي وغيره من حالات ذوبان المواد النشادر، وهو أول من ميز الفرق بين الصودا والبوتاس([29]).

لقد ميز الرازي بين المحلول الحقيقي وغيره من حالات ذوبان المواد الخاصة، لشدة شبهها بالإنسان، فكان مثلًا يجرع القردة الزئبق، ويختبر تأثير الأدوية فيها، ويسجل جميع ما يشاهده، بل لقد كان يجرب في نفسه ليرى ما يكون من أمر الدواء الذي يستعمله لعلاج مرض أصابه([30]).

من ذلك نرى أن الرازي عمل على الإفادة من مهاراته في الكيمياء في مجال الطب والصيدلة، فأدخل -كما سبق ذكر ذلك- المستحضرات الكيميائية في الطب؛ لاعتماده الحازم بأن تأثير الأدواء إنما يكون نتيجة عمليات حيوية تجري بين العقار وخلايا الجسم، وهذا ما يؤيده العلم الحديث من أن الأدوية تتفاعل في جسم الإنسان تفاعلات كيميائية وفيزيائية، مما يؤكد أن الرازي خطا خطوة كبيرة نحو علم الصيدلة أيضًا([31]).

لقد نجح الرازي في الربط بين الطب والكيمياء والصيدلة؛ فَقَدْ قَرَّرَ الرازي الطبيب معرفته التفصيلية بالأدوية وتراكيبها وتحضيرها مختبريًّا، وتطوير استعمالاتها في معالجته للمرض في نحو مباشر، ومن الثابت لدينا الآن أنه كان طبيبًا ممارسًا للتجارب الكيميائية الطبية، حتى ليصعب الفصل بينه طبيبًا وكيميائيًّا([32]).

كما أفاد الرازي من نبوغه في الكيمياء؛ لأنها عاونته على إعداد الأدوية بنفسه، فكان يعمل طبيبًا وصيدليًّا في وقت واحد، وكان أول من استخدم الرصاص في صنع المراهم([33]).

لقد كان للرازي أثرا عظيم على تقدم وتطور علم الصيدلة في العصور الوسطى، حيث إن الصيدلة تحتل مكانًا وسطًا يبن الطب والكيمياء، أو هي اتكاءة بين العِلْمَيْن، وقد أسهمت براعة الرازي في الكيمياء في فتح الطريق لتطوير علم الصيدلة، فهو الطبيب الصيدلي وهو الكيميائي البارع، وهو الماهر المبدع في كل ما سبق، وهو الذي أفاد من دراسته للموسيقى والغناء واستخدام الموسيقى في علاج المرضى لمعرفته بما لها من تأثير قوي في شفاء بعض الأمراض.