المحتوي
يؤكد المنصفون من المؤرخين بما لا يدع مجالًا للشك أن مِنْ أَهَمِّ العوامل التي ساعدت على ظهور النهضة الأوربية الحديثة وانتشارها كان اتصال الأوربيين بمراكز الحضارة العربية، سواء في فترة الحروب الصليبية أو أيام حكم المسلمين للأندلس.
وسأركز الحديث في هذا الجزء على تأثير الطب العربي، وخصوصًا في مجال الصيدلة والتداوي على النهضة الأوربية.
الحروب الصليبية
من الباحثين الغربيين من رد إلى الحروب الصليبية يقظة الغرب، التي تلتها في المحيط الاجتماعي والديني والسياسي والثقافي؛ حيث إن اتصال الغربيين بالشرق آثار دهشتهم بازدهار الحضارة العربية، وإعجابهم بنضج وتقدم العلوم ونضج أهلها، وكان الصليبيون يدهشون لبراعة أطباء العرب، ويستدعون منهم من يقوم بعلاج قادتهم، فإنهم لم يفيدوا من ازدهار الطب العربي أكثر من ذلك، وأقصى ما نستطيع افتراضه من تأثير الحروب الصليبية في مجال الطب هو أن نقرن قيام مدرسة الطب في مونبليه بالتجارة التي تبادلت بين جنوب فرنسا وسواحل بحر الروم الشرقي([1]).
كما نجد بعض أمراء الفرنجة قد اتخذ أطباء من نصاري العرب، فكان لعموري (عطريق الأول) طبيب اسمه سليمان بن داود، وحذا حذوه كثيرون من كبار الفرنجة.
وقد روى مؤرخو الحروب الصليبية قصصًا كثيرة تدل على جهل الفرنجة بالطب في هذه المرحلة من تاريخهم، فعندما أصيب عطريق الأول بالدوسنتاريا، واعتراه ضعف شديد، وحُمِلَ على نقالة، رفض طبيبه العربي أن يفصده أو أن يعطيه مسهلًا؛ لما ثبت عندهم من تعاليم الرازي، أن ضعف القوة أردأ العلامات، أما طبيبه الفرنجي ففعل به ذلك فمات من غده[2].
يتبين من ذلك أن الصليبيين لم يعلموا ما علمه أهل صقلية وسالرنو الذين نقلوا كتب الطب العربي، إلى لغتهم، ربما لانشغالهم بالحروب أو أنه لم يكن عندهم قدر كاف من الحضارة تسمح لهم باستيعاب العلوم العربية[3].
مدرسة سالرنو الطبية
على مقربة من نابولي المدينة الايطالية وعلى بُعد ثلاثين ميلًا من جنوبها الشرقي يقع خليج سالرنو حيث تقبع بلدة صغيرة كان لها في التاريخ موقع مميز.
ولا أحد يعرف علي وجه الدقة كيف نشأت هذه المدرسة، ولا من بذر بذورها الأولى، ولكن كل الشواهد تؤكد أن علماء العرب كان لهم فضل أصيل في نشأتها عندما نقلوا إليها علوم وحضارة المسلمين في صقلية إلى جنوب إيطاليا([4]).
اشتهرت مدينة الطب في سالرنو التي سميت كذلك مدينة أبقراط، وأصبحت مركزًا لنقابة الأطباء تجتذب المرضى والطلبة، ولقد وصل إلينا من هذه المدرسة دستور طبي في معالجة السموم باسم ANTIDOTARIUM للطبيب ونولو في القرن العاشر، وهو كتاب مصادره عربية بلا شك، وثمة كتاب آخر هو ANTIDATIUMICAL مصادره عربية كذلك، ظهر سنة 1100 م، ويعد أول فارماكوبيا لمدرسة سالرنو.
وبذلك نرى أن أول دخول للطب والصيدلة العربية إلى أوربا كان عن طريق هذه المدرسة التي أسسها أربعة أساتذة، كان كل منهم يُعَلّم بلغته، وهم: ساليزنوس، وبونتوس، وأديلا ربما تعني عبد الله بالعربية، وهو طبيب عربي، وهيلبينوس، كما أكدت دائرة المعارف البريطانية على ذلك حيث ذكرت «أن أهمية سالرنو التاريخية يتمركز حول مدرستها الطبية التي بُنِيَ هيكلها على أربع ثقافات هي: اللاتينية، والإغريقية، والعبرية، والعربية»([5]).
وعن تأثير الطب العربي في مدرسة سالرنو تقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب: «لقد غمرت مدرسة سالرنو علوم العرب في التطبب والمداواة في سيل عرم، ثم ما لبث هذا السيل في علم العرب أن فاض من سالرنو وامتد إلى شواطئ أوربا وخلجانها ومدنها، فأحال الصحراء إلى جنة وارفة من نباتات الفكر تتفيأ ظلالها الإنسانية جمعاء»([6]).
على أن أعظم من كان له أثر ظاهر في العلوم الطبية والصيدلانية إنما هو عالم عربي يدعى قسطنطين الإفريقي (1020 – 1087م) وهو قرطاجني المولد، طاف في البلاد الشرقية، ودرس الطب العربي، وجمع المصادر الخاصة به، ونزح إلى سالرنو حيث اعتنق المسيحية وعمل راهبًا في دير مونتي كاسينو، وسمى نفسه قسطنطين([7]).
وعند ذهابه إلى سالرنو حمل معه العديد من المخطوطات الطبية والعربية التي عكف على ترجمتها إلى اللاتينية، ولكن ترجماته جاءت صعبة وغامضة، ولقد أورد مؤرخو الطب العربي قائمة للكتب التي صنفها قسطنطين بلغت أربعة وعشرين كتابًا ومن بينها الكتاب الملكي أو كامل الصناعة الطبية، والذي ترجم إلى اللاتينية تحت عنوان Libet Regius لعلي بن العباس المجوسي، وهو الكتاب الذي كتب على منواله قسطنطين كتابه الكليات، كما ترجم قسطنطين كتاب (زاد المسافرين) لابن الجزار القيرواني، وكتاب (طب العيون) لحنين بن إسحق، وعدة رسائل لإسحق الإسرائيلي في البول والحميات والأدوية، وكانت الكتب التي ترجمها قسطنطين عن العربية تدرس في مدرسة سالرنو، وامتد تأثيرها إلى أنحاء أوربا والعالم كله([8]).
ويذكر أحد الباحثين في تاريخ علم الطب أن شهرة قسطنطين الأفريقي في الطب في غرب أوربا في أواخر العصور الوسطى وصدْر الحديثة تعادل شهرة جالينوس في روما وابن سينا في العالم الإسلامي، ولم يجد المنكرون لفضل الحضارة الطبية العربية الإسلامية على الغرب وسيلة لرفض فكرة أثر الطب الإسلامي في قيام جامعة ومدرسة سالرنو سوى التشكيك في شخصية قسطنطين الأفريقي، والادعاء بأنه شخصية وهمية لا أساس لها، وهذا القول أثبته العثور على مخطوطة ترجع إلى عصر النهضة الإيطالية على صورة لقسطنطين الأفريقي، وهو يجري الفحص البولي لبعض المرضى من النساء والرجال، وبيد كل واحد منهم قارورة زجاجية يعرضها علي قسطنطين لفحصها، ومكتوب فوق الصورة باللغة اللاتينية ما نصه:
«هذا هو قسطنطين الراهب بديرومونت كاسينو صاحب نظرية فحص البول وذو الباع الطويل في علاج كافة الأمراض».
ولم يكن فضل الطب العربي على جامعة سالرنو قاصرًا على الميادين الطبية فحسب، وإنما ظهر أيضًا في مجال الصيدلة وخاصة في مجال الأدوية المضادة للسموم، وقد أشاد بعض الباحثين بأحد أطباء سالرنو واسمه نقولا بوصفه أول من أسس في القرن الثاني عشر الميلادي قسمًا خاصًّا بالأدوية المضادة للسموم في علم الصيدلة.
وكان العالم ماكني الذي اشتهر بدراساته وبحوثه في تاريخ الطب يقول ما نصه: «إن الفضل في هذا الأمر لا يرجع إلى نقولا بقدر ما يرجع إلى علماء المسلمين؛ لأن نقولا استمد معلوماته عن المضادات للسموم من التراجم اللاتينية للمؤلفات العربية، وخاصة تلك المؤلفات التي ترجمها قسطنطين الأفريقي»([9]).
ولم يكن تأثير الطب والصيدلة الإسلامية قاصرًا على سالرنو فحسب، بل امتد أيضًا ليشمل جامعة بولونا الفرنسية الناشئة في فجر النهضة، فقد أشار الباحث راشدال الذي ذكر في معرض كلامه عن جامعة بولونا ما نصه «الواقع أن شهرة مدرسة الطب في بولونا لم تعد حقيقة ثابتة إلا منذ أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، عندما أخذ نجم مدرسة سالرنو في الأفول من ناحية، وعندما أخذ تيار الطب والصيدلة الإسلامية يشتد حتى صارت له الغلبة في غرب أوربا من ناحية أخرى».
وكان على طالب الطب في بولونا قبل أن يُسْمَح له بمزاولة المهنة أن يؤدي امتحانًا أساسيًّا في كتاب القانون لابن سينا، وكتاب الكليات لابن رشد، والمقالة السابعة من كتاب المنصوري للرازي.
وإذا كانت دراسة الطب قد ازدهرت في سالرنو وبولونا وغيرها من الجامعات الإيطالية الناشئة في فجر النهضة الأوربية الحديثة، نتيجة للمؤثرات الحضارية العربية الإسلامية الوافدة، من شمال أفريقيا والأندلس وصقلية، فإن نفس الوضع ظهر بالنسبة للجامعات الفرنسية لاسيما تلك التي ظهرت في جنوب فرنسا.
ففي كلية الطب جامعة مونبلييه أصدر البابا كلمنت الخامس مرسومًا في أوائل القرن الـ 14م عام 1309م، يشترط فيمن يسمح له بمزاولة مهنة الطب أن يؤدي امتحانًا في كتب معينة على رأسها، مؤلفات ابن سينا والرازي وحنين بن إسحق وقسطنطين الأفريقي، بل وحدد المرسوم بعض الكتب منها كتاب في الحميات لحنين ابن إسحق، وكتاب دفع مضار الأغذية ليوحنا به ماسويه.
ولقد صار للطب والصيدلة العربية مكانة كبيرة واضحة في جامعة باريس من أواخر القرن الـ 14م، حيث غدت مؤلفات ابن سينا وابن رشد محور تعلم الطب في هذه الجامعة.
هذا هو دور الطب والصيدلة الإسلامية العربية في جامعات إيطاليا وفرنسا، في فجر عصر النهضة، ومنه يتضح كيف حرصت هذه الجامعات على تلقف معارف المسلمين في الطب، واحتضان هذه المعارف والإفادة منها وتصديرها إلى جامعات أوربا([10]).
جزيرة صقلية
كذلك كان لجزيرة صقلية أثر عظيم في تقدم العلوم الطبية والصيدلية في أوربا، فقد نزل العرب صقلية سنة 827م واستولوا على بالرمو سنة 831 م، وفي سنة 878م استولوا على الجزيرة كلها بفتحهم مدينة سيراكوزا، وظل العرب في الجزيرة حتى سنة 1072م عندما استولى عليها تدريجيًّا روجر النورماندي([11])، والذي اقترن اسمه بالجغرافي المسلم الإدريسي، وفي صقلية تصدت طائفة من المترجمين لنقل التراث العربي الإسلامي إلى الشعوب الأوربية([12]).
ثم أصدر الإمبراطور فردريك الثاني الذي نجح في بسط سلطانه على كل من صقلية وألمانيا، وأصبح ملكًا على بيت المقدس سنة 622 هـ/ 1225م بفضل زواجه من إيزابيل ولية العهد([13]).
أصدر هذا الإمبراطور مجموعة من القوانين فرقت بين مهنتي الطب والصيدلة، وحتمت ضرورة التفتيش على الصيادلة، وطرق إعداد الأدوية التي صارت تتم وفقًا لأقراباذينات خاصة([14]).
كما كان الحال عند المسلمين، وكان فريدريك الثاني يحيط نفسه بجماعة من علماء العرب، ونقلت إلى اللاتينية روائع التراث العربي، وكان في خدمة ملك صقلية فرج بن سليم الذي نقل إلى اللاتينية كتاب الحاوي للرازي، وكتابًا في الطب التجريبي لجالينوس ترجمه حنين بن إسحق، وكتابًا في التقويم لابن جزلة، كما ألف كتبًا طبية وصيدلانية مَبْنِيَّة على مصادر عربية، مثل كتاب «تدبير الجسد» وأغلبه مأخوذ عن ابن سينا وعلي بن العباس المجوسي وحنين بن إسحق والرازي([15]).
الأندلس
أما ثالث المراكز التي انتقلت منها الحضارة والتراث الطبي الإسلامي إلى أوربا فهي بلاد الأندلس بلا شك من أهم الجسور التي عبرت خلالها المعارف العلمية والأدبية العربية إلى أوربا، وذلك لطول بقاء المسلمين فيها الذي امتد لما يقرب من ثمانية قرون، ولعظم تأثيرها في تلك البلاد.
وبدأت الحضارة العربية في الأندلس تأثيرها عندما قام جربرت الذي ولى عرش البابوية باسم سيلفستر الثاني برحلة إلى قرطبة عام 967 – 970م استمرت ثلاثة سنوات استهوته خلالها أسرار العلوم العربية وكنوزها[16]).
وفي سنة 1085هـ عادت طليطلة إلى النصارى، وفي القرن 12م كان رئيس أساقفها ريمون الطليطلي الذي أنفق بسخاء على الترجمة من العربية وحث عليها([17])؛ حيث أنشأ ديوانًا عامًّا لترجمة التراث العربي ليكون في متناول طلاب العلم من الأوربيين، واستمرت حركة الترجمة نشيطة من العربية من القرن 12 حتى 14م، بل إلى ما بعده.
وفي ظل هذه الحركة التي اتسعت آفاقها وعمق نشاطها وطال أمدها، ترجمت من العربية إلى اللاتينية كتب طبية كثيرة قام على ترجمتها أشهر المترجمين، وهو جيرار الكريموني؛ حيث ترجمت كتب ابن ماسويه والرازي وابن سينا، والزهراوي، وغيرهم، كما ترجمت من العربية إلى العبرية، والقشتالية (زاد المسافرين) ثم الأقراباذين لابن الجزار والأقراباذين وتدبير الصحة والأخلاق المنحول لجالينوس وغيرها([18]).
ولا شك أن كل هذه الكتب الطبية المترجمة غدت في متناول الطلبة والعلماء في مختلف جامعات أوربا في فرنسا وأسبانيا وإيطاليا، وأصبح الطب العربي هو معيار الطب مطلقًا، وعندما انتهى عصر الترجمة حاول علماء الغرب أن يقتفوا آثار العرب، وأن يعملوا بدورهم في ميدان الطب والصيدلة([19]).
لقد أخذت أوربا عن الصيدلة عند المسلمين الكثيرَ، من ذلك أنهم أخذوا طرق تحضير الأدوية المفردة والمركبة التي أصبح يقوم صيادلة الغرب بعد أن تدفق على بلادهم العديد من الأدوية والعقاقير العربية عن طريق البندقية وصقلية، بالإضافة للمؤلفات العربية في علم الأدوية والأقراباذين التي نقلت إليهم عن طريق الترجمة([20]).
ولقد تركت المؤلفات العربية التي ترجمت بصمات واضحة على الصيدلة عند الأوربيين الذين حاول البعض منهم في أول الأمر نسبة بعض مؤلفاتهم في هذا المجال إلي أسماء أطباء وصيادلة عرب؛ رغبة منهم في رفع شأن هذه المؤلفات، فقد نسب أحدهم كتابًا وضعه في علم الأقراباذين إلى ماسويه المارديني المعروف بماسويه الصغير([21])، وهو صاحب كتاب العقاقير الذي اشتهر في أوربا بعد أن تمت ترجمته إلى اللغة اللاتينية([22])، وظل هذا الكتاب قرونًا عديدة بمثابة الكتاب المدرس في علم الصيدلة في أوربا([23]).
كذلك يبدو التأثير الطبي الإسلامي في مجال الصيدلة واضحًا من خلال كتاب (الصيدلي) الذي ظهر في أوربا في القرن 9 هـ/ 15م، وينسب إلى مؤلف اتخذ لنفسه اسمًا عربيًا هو صلاح الدين، فقد وضح فيه مدى إعجاب هذا الكتاب بالمسلمين ومؤلفاتهم في مجال الصيدلة، بدليل أن ثلثي الكتب التي أوصى زملاء المهنة بضرورة اقتنائها كانت كتبًا عربية أصلية([24]).
ولعل من الضروري في هذا السياق أن نتحدث عن أهم الكتب العربية الأكثر تأثيرًا في الصيدلة عند الأوربيين:
كتاب القانون لابن سينا، ويأتي هذا الكتاب على رأس الكتب التى أثرت في مجال الصيدلة عند الأوربيين دون منافس، وظل كذلك حتى القرن الـ17م مما جعل داوسلر يقول: «إن القانون بقي إنجيلًا طبيًّا أكثر مما بقي أي كتاب آخر».
كتاب الحاوي للرازي، وكتاب الملكي لعلي بن عباس المجوسي، وكتاب التصريف لمن عجز عن التأليف للزهراوي، وكتاب الأدوية المفردة لابن سرابي، وكتاب (تقويم الصحة) لابن جزلة، وكتاب التيسير لابن زهر، وكتاب الأدوية المفردة لابن وافد اللخمي، وكتاب ماسويه المارديني، وكتب يوحنا بن ماسويه([25]).
وتعد المصطلحات والألفاظ العربية التى تسربت إلى علم الصيدلة عند الأوربيين صورة أخرى من صور التأثير الإسلامي في هذا المجال مثل لفظة (جلاب Julep) الفارسية الأصل، والتى تعني السكر إذا عقد بوزنه أو أكثر بماء الورد، ولفظة روب Rob التى تعني هلام الفاكهة، وتدخل في تركيب الأدوية، بدلًا من العسل والسكر، ولفظ شراب Syrup التى يقصد بها محلول السكر في الماء الذي كان يحضر حسب وصفات طبية خاصة يضاف إليها بعض عقاقير العلاج([26])، وغير ذلك الكثير من المصطلحات التى يضيق المجال هنا عن حصرها، وليس أدل ولا أعمق من قوة تأثير الصيدلة الإسلامية عند الأوربيين مما ذكرَتْهُ المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه التى قالت «فرآه من يرغب في رؤيته وأغفله من حجب بصره كره أرعن أو تعصب أعمى»([27]).
التخدير الاستنشاقي
كذلك من أهم إنجازات المسلمين في مجال الصيدلة إدخالهم التخدير الاستنشاقي باستعمال الإسفنجة المرقدة، وفي ذلك تقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه «وعلم الطب حقق مكسبًا كبيرًا واكتشافًا مهمًّا، وذلك باستعمال التخدير العام في العمليات الجراحية، وكم كان تخدير المسلمين فعالًا فريدًا ورحيمًا بكل من يتناولونه! وهو يختلف كل الاختلاف عن المشروبات المسكرة التى كان الهنود واليونان والرومان يجبرون مرضاهم على تناولها، وكانت الإسفنجة تغمس في مزيج من الحشيش والأفيون وست الحسن والزوان، ودخل هذا الاكتشاف العظيم إلى أوربا، وظل يستخدم حتى القرن الثامن عشر».
وهكذا نجد عبر المترجمين في سالرنو وطليطلة ترجمت كتب الرازي والمجوسي، وابن سينا، وابن وافد، وقد ظلت مخطوطات حتى نهاية القرن 15م حيث بدأت بالظهور مطبوعة ليتأثر بها علم الصيدلة الأوربي في المراحل اللاحقة، وفي أواسط القرن الثامن عشر تُرْجِمَت أجزاء من كتب العقاقير التى ألَّفَهَا ابن البيطار([28])، كذلك تُرْجِمَتْ أجزاء من كتبٍ مَنْحُولَة تنسب لابن ماسويه وأخرى منحولة تنسب لابن ساربيون، وقد عكست كتب الصيدلة الأوربية في القرن التاسع عشر صدى المؤلفات العربية في هذا المجال([29]).
الصيدلة العربية والصين
إنما امتد هذا التأثير إلى أقصى الأرض، حيث الإمبراطورية الصينية، وفي هذا الخصوص عثر على مجموعة من الوثائق والمخطوطات الإسلامية الهامة في مختلف المعارف والعلوم، وقد عهد إلى مجموعة من الأطباء والصيادلة تحقيق هذه الوثائق والمخطوطات النادرة كل في اختصاصاه، وقد أكدت الوثائق أن صيادلة الصين تعلموا الصيدلة على يد اليمنيين، ونقلوا العديد من الأعشاب اليمنية إلى الصين لزراعتها والاستفادة بها في علاج الأمراض المستعصية، وأوضحت الوثائق والمخطوطات أن أباطرة الصين قد أوفدوا البعثات إلى اليمن للاستفادة من خبرات علمائها في علوم الصيدلة، ومداواة الأمراض، كما تناولت المخطوطات الصينية براعة أهل اليمن في علاج الأمراض، وتحدثت الموسوعات الدوائية الصينية عن الأدوية اليمنية، وأن علماء الصيدلة في الصين قد نقلوا إلى بلادهم 183 نوعًا من الأعشاب الدوائية اليمنية([30]).
كما عثر في الصين على مدونات صينية تحدثت عن 124 نوعًا من الأدوية والأعشاب العربية، منها مخطوط عنوانه (الأعشاب الطبية) تم وضعه عام 659م وكتاب (الأدوية العشبية) الذي ألفه الصيدلي الصيني المسلم لي شي وأنا.
وقام صيادلة الصين من أصل عربي بجمع العقاقير والأعشاب الطبية من البلاد العربية، فحصلوا على 26 عقارًا بين الحجاز وعلى 41 عقارًا من عدن، وتضم المكتبة الطبية الصينية الكثير من المؤلفات العربية في علم الصيدلة.
وحرص صيادلة الصين على أن ينهلوا من مؤلفات المسلمين في الصيدلة، فأوفدوا إلى البلاد العربية بعثات طبية قامت بترجمة كتب ابن سينا إلى اللغة الصينية، وبرعوا في اختراع 120 نوعًا من الأدوية أغلبها أدوية عربية، وتتلمذ صيادلة الصين على يد الرازي([31]).