المحتوي
إن أول مَنْ مَارَسَ الصيدلة، وأطلق عليه صيدلاني في العصر الإسلامي كما أشار ابن أبي أصيبعة عيسى المعروف بأبي قريش الذي ذكر أنه كان صيدلانيًّا يجلس على موضع نحو باب قصر الخليفة ببغداد([1]).
وكانت الأدوية تباع عادة في دكاكين العطارين، وفي حوانيت الشرابين التي كانت تكتظ بها أسواق المدن الإسلامية، بالإضافة إلى دكاكين الصيادلة التي عرفت طريقها إلى هذه الأسواق منذ أيام ثاني الخلفاء العباسيين أبي جعفر المنصور، والذي أنشئت في عهده أول صيدلية ببغداد عام 149هـ، 766م([2]).
ثم ظهرت فئة من الصيادلة الممارسين فتحوا حوانيتهم (الصيدليات) على الطريق مباشرة، وبالتدريج تطورت مهنة الصيدلة وانفصلت عن العطارين وحوانيتهم، كما انفصلت قبل ذلك عن الطب، كل ذلك ولم تفتح الصيدليات في أوربا على هذه الشاكلة إلا بعد خمسمائة سنة([3]).
صيدليات البيمارستانات
افتتح المسلمون الصيدليات العامة في أواخر القرن الثامن الميلادي، وذلك منذ زمن المنصور، كما ألحقوا الصيدليات بالبيمارستانات المختلفة؛ حيث كان يتبع كل بيمارستان حقل للأعشاب والنباتات الطبية التي تستورد من أنحاء مختلفة في الخلافة الإسلامية، ويتبع هذا الحقل صيدلية لتحضير الدواء من النباتات، يشرف عليها صيدلي يسمى العشاب([4]).
إذن فقد جرت العادة أن يلحق بكل بيمارستان صيدلية يقوم عليها صيادلة أكفاء في إعداد الأدوية وتحضيرها، يشرف عليهم شيخ الصيادلة؛ أسوة بما كان عليه الحال في بيمارستان جند يسابور([5]).
ففي العصر الإسلامي ألحق بكل بيمارستان صيدلية أطلق عليها
(خزانه الشراب) أو الشرابخانه؛ أي: بيت الشراب، وكانت من الأجزاء الأساسية في كل بيمارستان، ولقد شاهد الرحالة المسلمون بعض البيمارستانات وما بها من خزائن الشراب، ومن هؤلاء الرحالة ابن جبير في رحلته إلى الشام، وبالتحديد إلى مدينة دمشق؛ حيث شاهد بها البيمارستان النوري (بيمارستان نور الدين محمود) فذكر: «ومنها مارستان قديم وحديث، والحديث أحفلها وأكبرها، له أعوان بأيديهم الملزمة المحتوية على أسماء المرضى، وعلى النفقات التي يحتاجون إليها في الأدوية والأغذية، ونجد ذلك مما يليق بكل إنسان منهم، والأطباء يتفقدون المرضى ويأمرون بإعداد ما يصلحهم من الأدوية والأغذية»([6]).
كذلك شاهد ابن جبير البيمارستان الذي شيده صلاح الدين الأيوبي في القاهرة أثناء رحلته إلى مصر عام 577هـ، 1181م فقال: «ومما شاهدناه أيضًا من مفاخر هذا السلطان المارستان الذي بمدينة القاهرة، وهو قصر من القصور الرائقة حُسْنًا واتساعًا، وعين قيِّمًا من أهل المعرفة وضَعَ لديه خزائن العقاقير، ومَكَّنَهُ من استعمال الأشربة وإقامتها على اختلاف أنواعها»([7]).
وعن الشراب خانه أو خزانة الشراب الملحقة بالبيمارستانات تحدث المؤرخ القلقشندي في كتابه «صبح الاعشى في صناعة الإنشا» فقال: «إن معناها مخزن الشراب الذي يضم المشروبات والأدوية والعقاقير؛ إذ كانت أشبه بالصيدلية الملكية، فكان لذلك يطلق عليها أيضًا (الدواء خانه)، وكان يشرف على الشراب خاناه مهتار عرف بمهتار الشراب خاناه»([8]).
كما وصف القلقشندي الشرابخاناه في عهده بقوله: «وكان فيها من أنواع الأشربة والمعاجين النفيسة والمربيات الفاخرة وأصناف الأدوية والعطريات الفائقة التي لا توجد إلا فيها، ومنها من الآلات النفيسة والآنية الصينية من الزبادي والبرعي والأزيار ما لا يقدر عليه غير الملوك»([9]).
ومن أشهر الصيدليات أو الشراب خاناه الملحقة بالبيمارستانات تلك التي كانت ملحقة ببيمارستان المنصور قلاوون بالقاهرة.
ولقد أشار المقريزي في خططه إلى بيمارستان قلاوون الذي شيده عام 683هـ 1284م، وذكر أنه رتب فيه من العقاقير وأفرد فيه مكانًا لطبخ الطعام والأدوية والأشربة، ومكانًا لتركيب المعاجين والأكحال والشيافات ونحوها، وجعل مكانًا يفرق فيه الأشربة والأدوية([10]).
وكل ما ذكره المقريزي بشأن المارستان أكدته وثيقة الوقف الخاصة به، فقد جاء فيها ما نصه: (وقف المنصور قلاوون هذا المارستان على مَنْ يَقُوم بمصالح المرضى من الأطباء والكحالين والجرائحين وطباخي الشراب والمزاور والطعوم وصانعي المعاجين والأكحال والأدوية والمسهلات المفردة والمركبة، وعلى القومة والفراشين والأمناء والمباشرين، وعلى مَنْ يقوم بمداواة المرضى من الأطعمة والأشربة والأكحال والشيافات والمعاجين والمراهم والدهان والشربات والأدوية المفردة والمركبة وثمن سكر يصنعه أشربة مختلفة الأنواع ومعاجين، وثمن ما يحتاج إليه لأجل ذلك من الفواكه والخماير رسم الأشربة، وثمن ما يحتاج إليه من أصناف الأدوية والمعاجين والعقاقير والمراهم والأطحال والشيافات، والأدهان والسفوفات والدرياقات والأقراص، وغير ذلك يصنع كل صنف في وقته وأوانه ويدّخره تحت يده في أوعية معدّة له، فإذا فرغ استعمل مثله من ريع الوقف، ولا يصرف من ذلك شيئًا إلا بقدر حاجته إليه، ولا يزيد عليها ذلك بحسب الزمان وما تدعو إليه الحاجة بحسب الفصول وأوقات الاستعمال.
ويصرف الناظر في هذا الوقف لرجلين مسلمين موصوفين بالديانة والأمانة، يكون أحدهما خازنًا لمخزن يتولى تفرقة الأشربة والاكحال والأعشاب والمعاجين والأدهان والشيافات المأذون له في صرف ذلك من المباشرين، ويكون الآخر أمينًا)([11]).
ويتضح مما ذكره المقريزي وما نصت عليه الوقفية أنه كان بالبيمارستان مكان معدّ لطبخ الأدوية مفردة ومركبة، وكذلك لإعداد المراهم والمعاجين، وأنه كانت بالشرابخانه أوعية وأوان خاصة لوضع الأدوية فيها، وأن هذة الأدوية كانت تصرف حسب ما يكتبه الأطباء للمريض، بقدر معين، مع اتخاذ الاحتياطات اللازمة لتخزين الأدوية وتغيير الفصول عليها، وكان يتم تحضير وصناعة الأدوية وتخزينها لوقت الحاجة إليها([12]).
البيمارستان العضدي
من أشهر البيمارستانات التي ألحق بها خزانة للشراب أو صيدلية البيمارستان العضدي الذي شيد عام 372هـ أنشأه عضد الدولة ابن بويه في الجانب الغربي من بغداد، ونقل إليه من الأدوية والأشربة والعقاقير شيئًا كثيرًا، ومن كل ما يحتاج إليه([13]).
وفي سنة 449هـ في عهد الخليفة القائم والسلطان طغرل بك أعيد تشغيل البيمارستان العضدي، وجمع فيه من الأشربة والأدوية والعقاقير التي يعز وجودها شيئًا كثيرًا، وكان فيه ثمانية وعشرون طبيبًا، وكان البستان إلى جانبه، وكان فيه جباب السكر الطبرزد والأبلوج واللوز والمشمش والخشخاش، وأربع قواصر فيها الإهليلج الأصفر والكابلي والهندي، وأربع قواصر قمر هندي، وزنجبيل وعود ومسك وعنبر، والرواند الصيني والبراني والترياق الفاروقي([14]).
البيمارستان المراكشي
أنشئ هذا البيمارسان في عصر الموحدين، وكان نموذجًا رائعًا ورائدًا للخدمات الصحية والاجتماعية، وقد خصصت الدولة ميزانية كبيرة لتحضير الأطعمة لغذاء المرضى، علاوة على الأموال المرصودة لصنع الأدوية على اختلاف أشكالها من أشربة وأدهان وأكحال، وتفيد المصادر بوجود (خزانة للأشربة) الخاصة بالخليفة، كان الطبيب الصيدلي أبو يحيى بن قاسم الإشبيلي أحد المشرفين عليها، كما تولى أبوه هذا المنصب قبله، وبعد وفاته خلفه ابنه للقيام بأمر هذه الخزانة، وكان بيمارستان مراكش يسمى دار الفرج، وأقام به الصيادلة لعمل الأشربة والأدهان والأكحال([15]).
الصيدليات الملحقة بالمنشآت الدينية
كانت الصيدليات تلحق أحيانًا بالمنشآت الدينية، فقد ذكرت المصادر أن أحمد ابن طولون عمل في مؤخرة جامعه خزانة للشراب فيها جميع الشرابات والأدوية، وعليها خدم، وفيها طبيب جالس يوم الجمعة لحادث يحدث للحاضرين للصلاة([16]).
كذلك ألحق بالمدرسة المستنصرية صيدلية أشار إليها ابن واصل وابن العبري وغيرهما إلى أنه كان في المدرسة المستنصرية في بغداد مخزن فيه أنواع الشراب والأدوية والعقاقير([17])، وكان بالمدرسة طبيب حاذق من واجبه معالجة المرضى من رجال الإدارة والمدرسين والطلبة، وأن يعطي المريض ما يوصف له من الأدوية والأشربة والأكحال السائلة والسكر والفراريج، وغير ذلك، وضمت المدرسة صيدلية أو منخرًا طبيًّا([18]).
صيدليات القصور السلطانية
لقد حوت قصور الخلفاء والسلاطين صيدليات خاصة أطلق عليها في مصر في العصرين الطولوني والفاطمي خزانة الشراب([19])، وفي العصر المملوكي أطلق عليها الشرابخاناه، ولقد وصف لنا المقريزي خزانة الشراب الملحقة بالقصور، فقال: «وخزانة الشراب هي أحد مجالس السلطان، فإذا جلس الخليفة على السرير عرض عليه ما فيها أمينها وهو متولي الشراب، فيحضر إليه فراشوها بين يديه من أنواع الأصناف العالية من المعاجين العجيبة في الصيني والطيافير والخنج وأصناف الأدوية من الرواند الصيني وما يجري مجراه مما لا يقدر أحد على مثله إلا هناك، وما يدخل في الأدوية من آلات العصر، ويسأل عن الترياق الفاروق، ويأمرهم بتحصيل أصنافه ليتمكن من عمله قبل انقطاع الحاصل منه»([20])، وفي غرب العالم الإسلامي بالأندلس، وبالتحديد في مدينة الزهراء؛ حيث تولى الطبيب الحراني أحمد بن يونس إقامة خزانة بالقصر الطبي لم يكن قط مثلها، ورتب لها اثني عشر طبيبًا صقالبة طباخين للأشربة صانعين للمعجونات، واستأذن أمير المؤمنين الناصر في أن يعطي الأدوية لغير القادرين من المساكين والمرضى، وأباح له ذلك([21]).
صيدليات الصيادلة
كان للأطباء حوانيت أو صيدليات خاصة في منازلهم أو في الشوارع العامة تسمى أحيانًا (بسطة)، وأحيانا أخرى (سقيفة)، كما كان الأطباء يقابلون تلاميذهم أو يتدارسون بعض الأمور الطبية فيها، من ذلك أن الطبيب القيرواني ابن الجزار، والذي كان يقيم في القيروان وكان ينهض في كل عام إلى المنستير، فيكون طوال أيام القيظ ثم ينصرف إلى إفريقية، وكان قد وضع على باب داره (سقيفة) أقعد فيها غلامًا له يسمى (رشيق) أعد بين يديه جميع المعجونات والأشربة والأدوية، فإذا رأى القوارير بالغداة أمر بالجواز إلى الغلام وأخذ الأدوية منه؛ نزاهة بنفسه أن يأخذ من أحد شيئًا([22])، كما كان الطبيب علي بن الهلال الحضرمي يجلس مع تلاميذه في دكانه الذي تصدى فيه للفتاوى الطبية([23]).
ويوجد الطبيب أبو الحكم المغربي طبيب المارستان في عهد السلطان محمود السلجوقي، والذي فتح في منزله بدمشق دكان عطارة (صيدلية)، وأخذ يطبب الناس، وأقام على ذلك حتى أتاه أجله([24]).
الصيدليات المنزلية
ألف كثير من أطباء العصر الإسلامي في قسم هام من أقسام الصيدلية، والتي تحوي أدوية بسيطة سهلة التركيب لا يستغني المرء عنها، ويمكن أن يستخدمها دون الحاجة إلى طبيب، من هؤلاء الطبيب أبو بكر الرازي في كتابه «من لم يحضره طبيب» فيعالج المرء نفسه إذا لم يتسن له استدعاء طبيب([25]).
وعن صيدليات العصر الإسلامي يذكر توماس جولد شتاين في كتابه «المقدمات التاريخية للعلم الحديث» ما نصه: (وعلى نواصي الشوارع في المدن الإسلامية أمكن المراقبون الغربيون أن يروا أولى دكاكين الصيدلة التى عرفها العالم تصرف الأعشاب والبهارات الشرقية، وتُعِدّ الأدوية طبقًا لوصفات طبية)([26])، وكانت هذة الدكاكين مجهزة بالصحاف والقوارير والقناني، والمدكات والهاون، وأيدي المدقات (يد الهاون) المرتبة فوق أرفف عالية، والتي تضفي على تلك الدكاكين طابعها الغرائبي العتيق.
وكان الصيدلي المسلم خلف طاولته يمارس فنه فعليًّا بمساعدة دستور أدوية، وهو كتاب يصف الأعشاب والتحضيرات الطبية مجموعًا بناءً على مرجعية بعض أعظم العلماء في الإسلام، وهو المرجع الأساسي نفسه الذي ما زال يستخدمه الصيدلي اليوم، مع إضافات وتعديلات العصور الماضية([27]) لوحة رقم (15).