المحتوي
هو أبو محمد بن عبد الله بن أحمد ضياء الدين الأندلسي المالقي العشاب المعروف بابن البيطار، ولد في مالقة بالأندلس في أواخر القرن السادس الهجري من أسرة ابن البيطار([1]).
ذكر ابن أبي أصيبعة عن ابن البيطار «أنه أوحد زمانه وعلَّامة وقته في معرفة النبات وتحقيقه، واختياره، ومواضع نباته، ونعت أسمائه على اختلافها، سافر إلى بلاد الأغارقة، وأقصى بلاد الروم، وأخذ عنهم الكثير، واجتمع في المغرب وغيره بكثير من الفضلاء في علم النبات، وفي نقل ما ذكره ديسقوريدس وجالينوس، وأشار ابن أبي أصيبعة إلى أول لقاء جمع بينه وبين ابن البيطار في سنة 533هـ، وذكر أنه رأى من حسن عشرته وكمال مروءته وطيب أعراقه وجودة أخلاقه ودرايته وكرم نفسه، ما يفوق الوصف ويتعجب منه»([2]).
نزل ابن البيطار مصر فقَرَّبَهُ الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب، وجعله رئيسًا لسائر العشابين وأصحاب البسطات، وقد اعتمد عليه في الأدوية المفردة والحشائش، وعندما توفي هذا الملك في دمشق التحق ابن البيطار بحاشية ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكانت له مرتبة عليا في أيامه([3]).
وأقام ابن البيطار مع الصالح نجم الدين أيوب في دمشق، وهناك درس نباتات الشام، وأخذ يطوف في أسيا الصغري، وقيل أيضًا في اليونان([4]).
لقد امتاز في أبحاثه حتى قد غطى اسمه باقي أسماء عشابي زمانه، وذلك لكثرة أسفاره ودراسته لأنواع النبات، وخواصه وفوائده، وكان في كل ترحاله يدرس النبات في منابته، ويدرس الحجر الذي ينمو فيه والأرض التي تنبته، والعوامل المختلفة المحيطة به، حتى جمع خبرة طويلة تقوم على الملاحظة الدقيقة فبدأ في تأليف كتبه الهامة([5]).
مؤلفات ابن البيطار
من أشهر مؤلفات ابن البيطار كتابه (الجامع لمفردات الأدوية والأغذية) والذي ألفه نزولًا على رغبة السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب، وضمنه شرحًا وافيًا لألف وأربعمائة دواء، ما بين معدني ونباتي وحيواني، رتَّبَهَا على حروف المعجم، منها ثلاثمائة عقار لم يسبقه إليها أحد([6]).
يذكر ابن البيطار في كتابه ماهيات الأدوية وقوامها ومنافعها ومضارها، وإصلاح ضررها، والمقدار المستعمل مع جرمها أو عصارتها أو طبيخها، والبدل منها عند عدمها([7]).
وذكر ابن البيطار عن كتابه: «واستوعبتُ فيه جميع ما في الخمس مقالات من كتاب الأفضل ديسقوريدس بنصه، وما أورده جالينوس في الست مقالات من مفرداته بنصه، ثم ألحقت بقولهما من أقوال المحدثين في الأدوية النباتية والمعدنية ما لم يذكراه»([8]).
ويوضح ابن البيطار المنهج الذي اتبعه في كتابه بقوله: «فما صح عندي بالمشاهدة والنظر، وثبت عندي بالخبرة لا بالخبر ادَّخَرْتُهُ كنزًا سريًّا، وعددت نفسي عن الاستغناء بغيري فيه سوى الله غنيًّا، وما كان مخالفًا نبذته ظهريًّا وهجرته مليًّا وقلت لناقله أو قائله: لقد جئت شيئًا فريًّا»([9]).
إن ابن البيطار في كتابه الجامع لم يرس قواعد المنهج النقدي فحسب، بل إنه قد وضع أسس المنهج العلمي أيضًا، وحدده في أهداف ستة، هي:
استيعاب القول في الأدوية المفردة والأغذية المستعملة على الدوام والاستمرار، والمقصود بذلك هو جمع مادته العلمية الطبية الخاصة بلغاتها المختلفة، والأمانة العلمية عند النقل، والتحقق من صحة الأدوية، والاعتماد على الملاحظة والمشاهدة والاختبار، وإجراء التجارب اللازمة للأدوية التي استعان بها في علاجه للأمراض، ووصف الأعشاب والنباتات، كما أنه قام بتحضير الأدوية واستخدام النسبة والكمية في إعداد الكميات اللازمة للعلاج، وحذر من الإفراط في أخذ العلاج أو الابتعاد عن أخذ الكمية المحددة([10]).
لقد جمع ابن البيطار في كتابه معلومات يونانية وعربية في علم النبات والأقراباذين، ولاسيما معلوماته الخاصة المكتسبة من أبحاثه وتجاربه الشخصية التي كان يجربها بنفسه.
لقد رجع ابن البيطار إلى أكثر من 150 مؤلفًا وكتابًا، وذكر فضل كل منها في موضوعه، وقد وصف أكثر من 1400 صنف من الأدوية المختلفة، ووصفه لها دقيق للغاية، وهو يذكر المترادفات، كما يذكر ترجمتها بالإغريقية والفارسية والبربرية والأسبانية الدارجة([11]).
وبعد أن أورد ابن البيطار مئات من النباتات والحيوانات، وعشرات من المعادن التي تتخذ منها العقاقير مسهبًا في الوصف والشرح، انتقل إلى ذكر كثير من الأدهان مثل دهن الورد، ودهن النرجس، ودهن القيصوم، ودهن البابونج، ودهن النرجس، كما تحدث ابن البيطار كثيرًا عن (الأطيان) مثل طين أرمني، وطين نيسابوري، وطين كرمي، ولكل فوائده واستعمالاته، ولقد اتبع ابن البيطار المنهج نفسه الذي اتبعه غيره من أهل الصنعة، والمنهج نفسه الذي ارتضاه ابن سينا، والترتيب المعجمي نفسه الذي فضله هو وأمثاله من طرائق الترتيب، وابن البيطار دائم الاستشهاد بأقوال أئمة الصناعة من أمثال ابن سينا وجالينوس وأبقراط وديسقوريدس، وشايعهم في كثير من الوصفات والمعتقدات، وأورد ثبتًا حافلًا من المعلومات النافعة المفيدة([12]).
وتوجد نسخة هامة من مخطوط (الجامع لمفردات الأدوية والأغذية) بالمتحف العراقي تحت رقم 12975، وهي نسخة جيدة تعود للقرن الحادي عشر الهجري، السابع عشر الميلادي، وتتضمن هذه النسخة المجلد الأول من الكتاب والذي ينتهي بحرف الخاء([13]).
إن كتاب الجامع هو قاموس موسوعي شامل يتكون من أربعة مجلدات، ويعرف الكتاب اختصارًا باسم مفردات ابن البيطار، أو الجامع في الأدوية المفردة، ترجم هذا الكتاب إلي الفرنسية والألمانية ودرس بجامعات أوربا، لأنه من المؤلفات الهامة في مجال الطب والصيدلة ويعتبر ركنًا أساسيًّا من أركان العلوم الصيدلية الحديثة، ويعده المستشرق (رام لاندو) أنه أهم كتاب في علم النبات([14]).
يقول صاحب كتاب الفكر الإسلامي منابعه وآثاره في الترجمة العربية للدكتور أحمد شلبي: «وابن البيطار الدمشقي مؤلف كتاب الأدوية المفردة، وهي مجموعة من الوصفات الطبية التي أثبتت نجاحًا عظيمًا في الشرق والغرب، وكانت من أسس علم العقاقير، واستعمل هذا الكتاب في تكوين أول صيدلية إنجليزية»([15]).
وعن كتاب الجامع قال ول ديورانت في كتاب قصة الحضارة: «لقد جمع ابن البيطار كل ما عرفه المسلمون في علم النبات في موسوعة عظيمة غزيرة المادة، ظلت هي المرجع المعترف به في هذا العلم، حتى القرن السادس عشر الميلادي، ورفعته إلى مقام أعظم علماء النبات والصيدلة في العصور الوسطى»([16]).
لقد أضاف ابن البيطار بكتابه الجامع الكثير إلى الصيدلة العربية، ويتمثل ذلك في الأدوية والعقاقير الجديدة التي ابتكرها ابن البيطار اعتمادًا على تجاربه الخاصة، والتي تبلغ زهاء أربعمائة عقار، ويتميز كتابه بالتعبير عن المواد الطبية بلغة مألوفة سهلة([17]).
وكتاب الجامع مكون من ستة فصول أهمها الفصل الرابع الذي رتب فيه الأدوية على حروف المعجم، والفصل الخامس والذي نبه فيه على كل دواء واقع فيه وَهْمٌ أو غَلَط، والفصل السادس خصصه في تسمية الأدوية بسائر اللغات، ويقال: إنه سمى كتابه بالجامع؛ لأنه يجمع بين الغذاء والدواء([18]).
ومما أورده ابن البيطار في كتابه فيما يتعلق بالنبات ذكره (نبات الوسن) وذكر أنه اسم يوناني، وذكر نبات حشيشة النجاة، وهو نبات ذو ساق واحدة، له ورق مستدير، ونقل عن جالينوس «أن هذا النبات ينفع من نهشة الكلب، وأنه ينقي الكليتان، ويذهب الكلف من الوجه» ونقل عن الغافقي دواء آخر سماه عشبة السباع، ينفع من عضة الكلب، وذكر أن عشبة السباع هو نبات الكراث.
وتابع ابن البيطار ذكر أسماء الأدوية والنباتات والعقاقير، فتحدث عن نبات «أطريلال»، وذكر أنه قشر أصل شجرة البرباريسو، أهل مصر يسمونه عود ريح مغربي، وهو شجر كبير له ورق شبيه بورق الطرفاء ثمرته حمراء يجمع في وقت قطاف العنب، وهو طيب الرائحة.
وفي الجزء الثاني من كتابه عالج ابن البيطار مئات أخرى من أنواع النبات والحيوان والمعادن، ومما يتطبب به من المسك والحنظل والدارصيني والزنجبيل والرواند والخس والخروع والخشخاش والفلفل والحلتيت والحرمل.
ثم تابع ابن البيطار عرضه لمفرداته في الأجزاء التالية من الكتاب موردًا آراء كل من تقدمه من العلماء.
وتناول ابن البيطار عددًا غير قليل من الحيوانات التي يتخذ منها عقارًا، وينصح بالتداوي بها على نحو من الأنحاء، وأورد كذلك في جامعه عددًا من المعادن والأحجار التي يتداوى بها أو تدخل في تركيب الأدوية مثل الرصاص والأسود بحجر الكحل الأسود، والعقيق والأكحال([19]).
لقد تأثر ابن البيطار في كتابه الجامع بابن سينا، ولكنه تميز عنه في كثير من المواضيع؛ حيث ركز ابن البيطار على الخصائص الطبية للنبات وفوائده في العلاج ومداواة الأمراض، ووجه اهتمامه إلى تفصيل المزايا الطبية؛ فقد كان ابن البيطار صيدليًّا وهمه الأول الصيدلة([20]).
كتاب المغني في الأدوية المفردة:
ومن مؤلفات ابن البيطار الهامة كتاب «المغني في الأدوية المفردة» ألفه للملك الصالح نجم الدين أيوب، وهو مرتب حسب الأعضاء ومداواتها، وينقسم إلى عشرين فصلًا، أتى فيه على علاج كل عضو بصورة موجزة، فتناول الأدوية الخاصة بالرأس والأذن، إلخ، ثم ذكر الأدوية ضد الحميات والسموم، وأورد أسماء العقاقير التي هي أكثر شيوعًا([21]).
كتاب الإبانة والإعلام بما في المنهاج من الخلل والأوهام
وهذا الكتاب نقد فيه ابن البيطار كتاب منهاج البيان لابن جزلة، ولابن البيطار أيضًا كتاب تفسير كتاب ديسقوريدس أو شرح أدوية كتاب ديسقوريدس وبه 550 نبات طبي من النباتات اليونانية، وهو عبارة عن قاموس باللغات العربية والسريانية واليونانية والبربرية، وشرح للأدوية المفردة النباتية والحيوانية عند ديسقوريدس، وله كذلك رسالة في التداوي بالسموم، ومقالة في الليمون([22])، ومن مؤلفات ابن البيطار الهامة كتاب (الدرة البهية) والذي أشار فيه ابن البيطار إلى الأدوية والأغذية وأهميتها لبدن الإنسان، وأوضح فيه اختلاف الدواء باختلاف المرض فيقول: «إن كان في كل دواء من الأدوية قوى كثيرة مختلفة لا توافق المرض الواحد من جميع جهاته، فيجب معرفة أدوية كثيرة مختلفة المزاج أو القوة نافعة من مرض واحد يختار منها المعالج الأليق بغرضه والأصلح لقصده».
ويقول ابن البيطار: «واعلم أن الشيء الوارد على بدن الإنسان إما أن يجعله البدن إلى ملازمته، وهذا هو الغذاء المطلق، وإما أن يغير هو البدن ويقهره، وهذا هو الدواء الفعال، وإما أن يغيره البدن ثم يعود هو فيغير البدن إلى مزاج كمزاجه، وهذا هو الدواء المطلق، وإما أن يغير البدن فيغيره آخر وهذا هو الغذاء المداوي، ولما كان الدواء القتال أقوى من البدن غيره وأفسده، والدواء المطلق والغذاء المداوي قوتهما مقاربة لقوة البدن»([23]).
ويمكن القول أن المغني ينطلق من التاريخ الطبيعي للنبات، والجامع من استعمالاته في العلاج، حيث ذكر فيه ابن البيطار المفردات المستعملة في التزيين، وتلك المستعملة في علاج الحمى، والمفردات المستخدمة ضد السموم، ويوجد من كتاب المغني العديد من النسخ المخطوطة[24]
ابن البيطار واستقرار المصطلح الطبي
لم تقتصر جهود ابن البيطار على ذكر مئات الأدوية والعقاقير وإضافة عشرات الأصناف ذات الأصول النباتية والحيوانية والمعدنية التي لم تكن معروفة من قبل، وساهم في تأسيس الصيدلية العربية في أسس علمية تجريبية، بل إنه ساهم أيضًا في استقرار المصطلح الطبي العربي، وأثرى معجمه الذي أصبح من بعده مصدرًا ثريًّا لكل أطباء أوربا والغرب([25]).
وهكذا نرى أن بحوث ومؤلفات ابن البيطار في عالم الأعشاب والنباتات الطبية، وكذلك تجاربه الدوائية، واعتماده على الملاحظات الدقيقة، والتجارب العميقة في هذا العلم التجريبي، أثره الذي لا ينكر في تقدم هذا العلم وتطوره على يد العرب والمسلمين.
ومن المؤكد أن تأثير ابن البيطار وأمثاله من التجريبيين المسلمين المشتغلين بالنباتات والأعشاب والكيمياء الدوائية والمؤلفين الكتب في علم الصيدلة والعقاقير الطبية قد وصل أثره العميق إلى أوربا في عصر النهضة، وتعداها حتى وصل إلى القرن التاسع عشر الميلادي؛ حيث ترجمت أجزاء من كتاب الجامع([26]).
تصنيف الأدوية عند ابن البيطار
من مؤلفات ابن البيطار التي أشار فيها إلى تصنيف الأدوية كتاب (الدرة البهية) حيث يشير إلى الأدوية والأغذية وأهميتها لبدن الإنسان، ويوضح اختلاف الدواء باختلاف المرض والمرضى، وأشار إلى أمزجة الأدوية واختلافها والبدن وعلاقته بالدواء، وارتبط الدواء بسن المريض إذا كان طفلًا أو بالغًا، فكل سن يحتاج إلى دواء معين([27]).
لقد وضع ابن البيطار الأسس الأولى لربط النبات بتصنيفه صيدليًّا وطبيًّا، فلقد اختلف ابن البيطار عن باقي علماء النبات الآخرين في أنه كان عشابًا وطبيبًا نباتيًّا يتحدث عن النبات وأوصافه وأصله وساقه وورقه وزهره وثمره، حتى لا يخلط بين نبات نافع وآخر ضار، ثم يعقب على ذلك بذكر ما يستخلص منه من عقار مفيد في العلاج، وكيف يؤخذ، ومتى يؤخذ، وكيف يعد الدواء، وكيف يتعاطى، ومقدار الجرعة.
إن المنهج الذي اختطه بن البيطار في رسم الصورة في تأليف كتبه لاسيما الجامع لمفردات الأدوية والأغذية لهو المنهاج الذي سبقه إليه الشريف الإدريسي([28]).
إن ابن البيطار كما ذكر وليم لاندر في كتابه (الإسلام والغرب) «أن ابن البيطار هو أعظم عالم نباتي وصيدلي في القرون الوسطي، ولو روعيت جميع الاعتبارات على حقيقتها فهو أعظم نباتي وصيدلي في جميع العصور»([29]).