جاء القاهرة ابن خلدون المؤرخ الفيلسوف العالم الاجتماعي الأديب الذي يعد قمة في تاريخ الحضارة الإسلامية وفي تاريخ الحضارة الإنسانية وأحد القلائل الأفذاذ الذين يجمع الشرق والغرب معاً على إكبارهم. استشرف ابن خلدون إلى القاهرة في القرن الثامن الهجري بعد أن شارك في أحداث تونس السياسية والاجتماعية حتى نهاية الحلقة الخامسة من عمره وناء بما حمل فأزمع الرحيل إلى مصر.. إلى مجالات القاهرة كعبة الحضارة الإسلامية بعلومها وأعلامها وكأنه كان يقتفي أثر ابن خلدون الذي سبقه إليها قبله بنصف قرن.
وما كاد ابن خلدون يدخل القاهرة حتى هتف وقد وقع في بحران من الحماسة السكرى يقول: “رأيت حاضرة الدنيا وبيتان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر وإيوان الإسلام وكرسي الملك تلوح القصور والأواوين في جوه، وتزهو الخوانق والمدارس والكواكب بآفاقه وتضيء البدور والكواكب من علمائه، قد مثل بشاطئ النيل نهر، ومدفع مياه السماء يسقيه العلل والنهل سيحه، ويجبي إليهم الثمرات والخيرات ثجة، ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة، أسواقها تزخر بالنعيم”.
وفي القاهرة تطلع ابن خلدون إلى الجامع الأزهر وهناك تحلقت حوله الندوة. يقول ابو المحاسن بن تغرى بردى: “واستوطن – ابن خلدون – القاهرة وتصدر للإقراء بالجامع الأزهر مدة، واشتغل وأفاد”. ويقول السخاوي:
“وتلقاه أهلها- أي أهل مصر- وأكرموه وأكثروا ملازمته والتردد عليه. بل تصدر للإقراء بالجامع الأزهر مدة”، ويقول عنه الحافظ بن حجر العسقلاني: “وكان مسناً فصيحاً، حسن الترسل وسط النظم مع معرفة تامة بالأمور خصوصاً متعلقات المملكة”

استقر ابن خلدون في القاهرة ما يقرب من ربع القرن حتى توفاه الله في سنة 1406 بعد أن شغل عدة مناصب دينية وعلمية كبرى، كان من أهمها مناصب القضاء .

وتناول فيلسوفنا العظيم في مقدمته المشهورة – أحوال العلم والعلماء في القاهرة فقال : ونحن نري أن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة من بلاد مصر كما أن عمرانها مستبحر وحضارتها مستحكمة منذ آلاف السنين ، فاستحكمت فيها الصنائع وتفتت ومن جملها تعلم والعلم وأكد ذلك فيها وحفظه ما وقع لهذه العصور بها منذ مائتين من السنين في دولة الترك من أيام صلاح الدين أيوب وهلم جرا ، واستكثر أمراك الترك من بناء

المدارس والوزايا والربط ووقفوا عليها الأوقاف المغلة يجعلون فيها شركاء لولدهم ينظر عليها أو نصيب نها مع ما فيهم غاالباً من الجنوح لي الخير.

فكثرت الأوقاف لذلك وكثر طالب العلم ومعلمه بكثرة جرايهم ، واتحل إليها الناس في طلب العلم من العراق والمغرب نفقت بها أسواق العلوم وزخرت بحارها ، والله يخلق ما يشاء ويواصل ابن خلدون كلامه حتي يقول :

لما درست معالم بغداد بدروس الخلافة فانتقل شأنها من الخط والكتاب بل والعلم إلي مصر والقاهرة ، فلم تزل أسواقه لها نافعة لهذا العهد معلمون يرسمون لتعليم الحروف بقوانين في وضعها وأشكالها متعارفة بينهم فلا يلبث المتعلم أن يحكم أشكال تلك الحروف علي تلك الأوضاعه وقد لقنها حسناً وحذق فيها دربه وكتابة وأخذها قوانين علمية فتجئ أحسن ما يكون. لقد بلغت الحضارة فبلغا عظيماً في العراق والشام ومصر لطول آماد الدرل فيها فاستحكمت فيها الصنائع وكملت جميع أصنافها علي الاستجابة والتنميق وبقيت صبغتها ثابتة في ذلك العمران لا تفارقه إلي أن ينتقض بالكلية حال الصبغ إذا رسخ في الثوب. ومن وصف ابن خلدون للقاهرة المملوكية وأسواقها تزخر بالنعم …. وما زلنا نحدث عن هذا البلد ، وبعد مداه فى العمران ، واتساع الاحوال ، ولقد اختلفت عبارات من لقينه من شيوخنا وأصحابنا حاجهم وتاجرهم بالحديث عنه سألتا صاحبنا قاضى الجماعة بفاس وكبير العلماء بالمغرب ، اب عبدالله المغرى عند مقدمه من الحج سنة أربعين وسبعمائة فقلت له كيف القاهرة ، فقال من لم يرها لم يعرف عز الاسلام ، وسألت شيخنا أبا العباس بن ادريس كبير العلماء ببجاته فقال : كانما انطلق أهله من الحساب اشارة الى كثرة أممه وأمنهم العواقب ويقول ابن خلدون وحضر صاحبنا قاضى العسكر بفاس الفقيه الكاتب أبوالقاسم البرجى بمجلس السلطان أبى عنان متصرف من السفارة عنه الى ملوك مصر ونادته رسالته النبوية الى الضريح الكريم سنة ست وخمسين وسبعمائة وسأله عن القاهرة فقال ” أقول فى العبارة عنها على سبيل الاختصار : ان الذى يتخيله الانسان فإنما يراه دون الصورة التى يتخيلها لاتساع الخيال عن كل محسوس الا القاهرة فانها أوسع من كل ما يتخيل فيها ، فأعجب السلطان والحاضرون بذلك

ثم يقول ابن خلدون عن حفاوة القاهرة وعلماؤها ” فلما دخلتها أقمت أياما وانهال عليا طلبة العلم بها ، يلتمسون الافادة مع قلة البضاعة ، ولم يوسعونى عذرا فجلست للتدريس فى الجامه الازهر