زار ابن فضل العمرى مصر فى عهد السلطان الناصر محمد ابن قلاوون وقد رصد فى كتابة مسالك الابصار فى ممالك الامصارأحوال مصر والقاهرة فى عصر الناصر محمد واعطى صورة رائعة عن حياة احد أعظم سلاطين المماليك فى مدينة القاهرة كما رسم لنا صور الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فى المدينة وحياة أمراء امماليك ومجالسهم وركوبهم وخروجهم للصبد والتنزهوتعكس كتاباته جزء هاما من حياة  وتاريخ القاهرة فى العصر المملوكى

يقول ابن فضل عن مصر فى كتابه مسالك الابصار فى ممالك الامصارعن القاهرة ومصر” وأما مبانيها فقليل منها بالحجر وأكثرها بالطوب وأفلاق النخل والجريد، وخشب الصنوبر مجلوب إليهم من بلاد الروم من البحر ويسمى عندهم النقي. وبها المدارس والخوانق والربط والزوايا والترب الضخمة والعمائر الجليلة الفائقة والأماكن المعدومة المثل، المفروشة بالرخام، المنقوشة بالأخشاب، المدهونة بأنواع الأصباغ، الملمعة بالذهب واللازورد، ومن حيطانها ما هو مؤزر بالرخام، وتختلف المباني بحسب اختلاف أصحابها.
وحاضرة مصر تشتمل على ثلاث مدن عظام، الفسطاط وهو بناء عمرو بن العاص وهي المساة عند عامة أهل مصر بمصر العتيقة، والقاهرة المعزية بناها القائد جوهر لمولاه الخليفة المعز بن القائم بن المهدي، وقلعة الجبل بناها قراقوش للملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب رحمه الله تعالى، وأول من سكنها أخوه العادل، وقد يفصل بعض هذه الثلاثة ببعض بسورما، بناه قراقوش بها، إلا أنه قد يقطع الآن في بعض الأماكن.
وهذا السور هو الذي ذكره الفاضل في كتاب كتبه إلى صلاح الدين فقال: والله يحيى الموتى حتى يستدير بالبلد من بنطاقه ويمتد عليها رواقه، فيها عقيلة ما كان معصمها ليترك بغير سوار ولا خصرهما ليخلى بلا منطقة نضار، والآن قد استقرت خواطر الناس وآمنوا به من يدٍ تتخطف ومن طمع مجرم يقدم ولا يتوقف وقد عظمت، وبها المارستان المنصوري المعدوم النظير لعظمة بناية، وكثرة أوقافه، وسعة اتفاقه، وتنوع الأطباء وأهل الكحل والجراح به، وهو جليل المقدار، جميل الآثار جزيل الإيثار، وقفه السلطان الملك المنصور قلاوون رحمه الله. وبها البساتين الحسان ، والمناظر النزهة ، والادوار المطلة على البحر ، وبها القرافة تربة عظمى لمدفن أهلها ، وبها العمائر الضخمة ولها المتنزهات المستطابة ، وهى من أحسن البلاد إبان ربيعها للغدر الممتدة من مقطعات النيل بها وما يحفها من زروع أخلاجت شطأها وفتقت أزهارها ”
فأما مسجدها الجامع فهو الفارق بينها وبين ما سواها والفائق بحسنه على كل المباني،

في هذه المملكة مصر والشام، من محاسن (الأشياء ولطائف الصنائع، ما تكفى شهرته، وبها من أنواع الصناع في الأسلحة) والقماش والزركش والمصوغ والكفت وغير ذلك مما يكاد يعد تفردها به، والرماح التي لا يعمل في الدنيا أحسن منها.
وأما عساكر هذه المملكة فمنهم من هو بحضرة السلطان، ومنهم من فرق في أقطار هذه المملكة وبلادها، ومنهم سكان بادية كالعرب والتركمان.
وجندها مختلط من أتراك وجركس وروم وأكراد وتركمان، وغالبهم من المماليك المبتاعين، وهم طبقات، أكابرهم من له إمرة مائة فارس، وتقدمة ألف فارس من هذا القبيل يكون أكابر النواب، وربما زاد بعضهم بالعشرة فوارس والعشرين، ثم أمراء الطبلخانات، ومعظم من تكون له إمرة أربعين فارساً، وقد يوجد فيهم من له أزيد من ذلك إلى السبعين.
ويبلغ بمصر أقطاع بعض أكابر الأمراء المثيين المقربين من السلطان مائتي ألف دينار حبشية وربما زادت على ذلك، وأما غيرهم فدون ذلك ودون دونه، ودون دونه، ودون دونه إلى ثمانين ألف دينار، وما حولها.
وللأمراء على السلطان في كل سنة ملابس، فأما من بحضرته فحظهم في ذلك،

وأقر لهم الخيول في كل سنة، ينعم بها عليهم، ولأمراء المئين مسرجة ملجمة،

والبقية عرى، وتمتاز خاصتهم على عامتهم بذلك، ولجميع الأمراء بحضرته من المئين والطبلخانات والعشرات الرواتب الجارية في كل يوم من اللحم وتوابله كلها والخبز والشعير والزيت، ولبعضهم الشمع والسكر والكسوة في السنة، وكذلك لجميع مماليك السلطان وذوي الوظائف من الجند.
وإذا ركب هذا السلطان إلى الميدان يلعب الكرة، يفرق حوائص ذهب على المقدمين وركوبه إلى الميدان يكون دائماً يوم السبت في قوة الحر نحو شهرين من السنة، يفرق كل ميدان على اثنين بالنوبة، فمنهم من تجىء نوبته بعد ثلاث سنين (المخطوط 902) أو أربع سنين، ولكل ذي إمرةٍ بمصر من خواص عليه السكر والحلوى من رمضان والأضحية في عيد الأضحى على مقادير رتبهم والبرسيم لتربيع دوابهم، ويكون في تلك المدة بدل العليق المرتب لهم.
ومن مصطلح صاحب مصر أن تكون تفرقته الخيل على أمرائه في وقتين، أحدهما عند ما يخرج إلى مرابط خيله في الربيع عند اكتمال تربيعها. وفي ذلك الوقت يعطي أمراء المئين مسرجة له ملجمة، بكنابيش مذهبة، والطبلخانات عرياً، وعند لعبه بالكرة في الميدان، وفي ذلك الوقت يعطى الجميع مسرجة ملجمة بلاكنابيش بفضة خفيفة، وليس للعشرات حظ في ذلك إلا ما يتفقدهم به على سبيل الأنعام، والخاصة المقربين من الأمراء المئين والطبلخانات زيادات كثيرة في ذلك بحيث يصل إلى بعضهم المائة فرس في السنة.
وله أوقات أخرى يفرق فيها الخيل على مماليكه، وربما أعطى بعض مقدمي الحلقة، وقاعدة عنده أنه إذا كل من نفق له من مماليكه فرس يحضر من لحمه والشهادة بأنه نفق، ويعطيه فرساً عوضه.
ومن عادة هذا السلطان أن الخروج إلى الصيد مرات في السنة، فإذا خرج أنعم على أكابر أمراء المئين، ولا أعني المقربين، بل أكابرهم قدراً وسِناً، كل واحد منهم بألف مثقال ذهباً، وبرذون خاص به مسرج ملجم وكبنوش مذهب، ومن عادته أنه إذا مر في متصيداته بأقطاع أمير كبير قدم له من الغنم والأرز والدجاج وقصب السكر والشعير ما تسموا همة مثله إليه، فيقبله منه، وينعم عليه بخلعة كاملة، وربما أمر لبعضهم بمبلغ من المال، .
ومن شعار سلطنة هذه المملكة أن يركب سلطانها في يوم (وخوله إلى مدينةٍ يحيها، ويوم العيد وأيام ركوبه إلى الميدان للعب) الكرة برقبة، وهي بزركش ذهب على أطلس أصغر يعمل على رتبة الفرس من تحت أذنيه إلى نهاية العُرق، ويكون قدامه اثنان من أوشاقيته راكبين على حصانيين أشهبين برقبتين نظير ما هو راكب كأنهما معدان لأن يركبهما، وعلى الوشاقيين المذكورين قباءان أصفران من حرير بطرازين مزركش بالذهب وعلى رأسيهما قبعان مزركشان وغاشية السرج محمولة أمامه دائماً وهي أديم مزركش بذهب يحملها بعض الركاب دائرة قدامة، وهو ماش في وسط الموكب، ويكون قدامه فارس يشبب بسبابة، لا يقصد بنغمها الإطراب بل ما يقرع بالمهابة سامعه، ومن خلفه الجنائب، وعلى رأسه العصائب السلطانية، وهي صفر مطرزة بذهب بألقابه واسمه في يوم العيدين ودخول المدينة، يزيد على ذلك برفع المظلة على رأسه، وهي الجتر، وهو أطلس أصفر مزركش على أعلاه قبة وطائر من فضة مذهبة بحملها يومئذٍ بعض أمراء المئين الأكابر، وهو راكب فرسه إلى جانبه، وأرباب الوظائف والسلاح كلهم خلفه وحوله وأمامه الطبردارية وهم طائفة من الأكراد، ذوي الإقطاعات والإمرة يكونون مشاة وبأيديهم الأطبار مشهورة.
ومن رسم الأمراء أن يركب الأمير منهم حيث يركب وخلفه جنيب، وأما أكابرهم فربما ركب بجنيبين، هذا في المدن والحاضرة، وهكذا في البر، ويكون لكل منهم طلب مشتمل على أكثر مماليكه قدامهم خزانة محمولة للطبلخان على جمل واحد وأما زيهم فالأقبية التترية والتكلاوات فوقها، ثم القباء الإسلامي فوقها، وعليه تشد المنطقة والسيف، ثم الأمراء المقدمون وأعيان الجند تلبس فوقه أقبية قصيرة الأكمام أقصر من القباء التحتاني بلا تفاوت كثير في قصر الكم والطول وكلوتات صغار غالبها من الصوف الملطي الأحمر، وعليها عمائم صغار ومهاميز على الأخفاف، ويعمل المناديل على الحياصة على الصولق من الجانب الأيمن.

هذا هو زي أهل هذه المملكة ومعظم حوائصهم الفضة ومنهم من يعملها من الذهب، وربما عملت باليشم ولا ترصع بالجواهر إلا في خلع السلطان لأكبار المئين، ومعظمهم يلبس المطرز ولا يكفت مهمازه بالذهب أو يلبس المطرز إلا من له أقبطاع من الحلقة، وأما من هو يقدر بالجامكية فإنه لا يتعاطى على ذلك، وعلى الجملة فزيهم ظريف وعددهم فائقة نفيسة، وملبوسهم منوع من الكمخا والخطائى والكبخى والمخمل والاسكندراني والشرب والنصافي والأصواف.

ذكر هيئة جلوسه للمظالم

عادة هذا السلطان أن يجلس بكرة الاثنين ما كان بالقلعة خلا شهر رمضان، فإنه لا يجلس فيه هذا المجلس، ومجلسه هذا هو في أبواب ظاهر قصره قريباً من بابه، وهو إيوان متسع على عمد منه مرتفع السمك أمامه رحبة فسيحة، يسمى هذا الإيوان «دار العدل» وفيه تكون الخدمة العامة، واستحضار رسل الملوك غالباً، فإذا قعد للمظالم كان جلوسه على كرسي، إذا قعد عليه تكاد تلحق الأرض رجليه، وهو منصوب إلى جانب المنبر الذي هو تخت الملك ويجلس على يمينة قضاة القضاة من المذاهب الأربعة ثم الوكيل عن بيت المال ثم الناظر في الحسبة، ويجلس على يساره كاتب السر، وقدامه ناظر الجيش وجماعة الموقعين تكملة حلقة دائرة وإن كان، ثم وزير من أرباب الأقلام، كان بينه وبين كاتب السر، وإن كان الوزير من أرباب السيوف كان واقفاً على بعد مع بقية أرباب الوظائف وكذلك إن كان:
ثم نائب يقف مع أرباب الوظائف، ويقف من وراء السلطان صفان عن يمينه وشماليه من السلاح داريه والجمداريه والخاصكية ويجلس على بعد تقدير خمسة ذراعاً عن يمينه ويسرته ذوو السن من أكابر أمراء المئين، وهم أمراء المشورة، ويليهم من أسفل منهم أكابر الأمراء وأرباب الوظائف وقوف، وبقية الأمراء وقوف من وراء أمراء المشورة، ويقف خلف هذه الحلقة المحيطة بالسلطان الحجاب والدواداريه، لإحضار قصص الناس. وإحضار المساكين، وتقرأ عليه، فما احتاج إلى مراجعة القضاة راجعهم فيه وما كان متعلقاً بالعسكر تحدث مع الحاجب وكاتب الجيش فيه، ويأمر في البقية بما يراه.

ذكر هيئته في بقية الأيام

عادة هذا السلطان في يوم الاثنين ما تقدم ذكره، وكذلك في يوم الخميس على مثل هذه الهيئة أيضاً إلا أنه لا يتصدى فيه لسماع القصص ولا يحضره أحد من القضاة وكاتب الجيش والموقعين إلا عرضت حاجة إلى طلب أحد منهم وهذا القعود عادته في طول السنة ما دام أنه بالقلعة في الاثنين والخميس غير رمضان أيضاً.
وأما بقية الأيام فإنه يخرج من قصوره الجوانية إلى قصره الكبير البراني، وهو بشبابيك مطلة على اصطبلاته، وفي صدره تخت الملك المختص، فيقعد تارة عليه، وتارة دونه على الأرض، والأمراء وقوف على ما تقدم خلا أمراء المشورة والغرباء منه كأنه ليس لهم عادة بحضور هذا المجلس ولا يحضر هذا المجلس من الكبار إلا من دعت الحاجة إلى حضوره ثم يقوم في الثالثة من النهار، ويدخل إلى قصوره الجوانيه، ثم إلى دار حريمه ونسائه، ثم يخرج في أخريات النهار إلى قصوره الجوانية لمصالح ملكه، ويعبر إليه عليها خاصته من أرباب الوظائف في الأشغال المتعلقة به على ما تدعو الحاجة إليه.

ذكر هيئته في الأسفار

قد تقدم ذكر هيئته في الأعياد وأيام المؤادين، فأما في الأسفار فإنه لا يتكلف إظهار كل ذلك الشعار، بل يكون الشعار في موكبه السائر فيه جمهور مماليكه مع المقدم عليهم، واستاذ دار، وأمامهم الخزائن والجنائب والهجن، وأما هو بنفسه فإنه يُركب ومعه عدة كثيرة من الأمراء الكبار والصغار من الغرباء والخواص ونخبة من خواص مماليكه، ولا يركب في السير برقبه ولا بعصائب، بل تتبعه جنائب خلفه، ويقصد في الغالب تأخير النزول إلى الليل، فإذا جاء حملت قدامه فوانيس كثيرة ومشاعل، فإذا قارب مخيمه تلقى بشموع مركبة في شمعدانات كفت، وصاحت الجاويشيه بين يديه، وترجلت الناس كافة إلا حملة السلاح داريه والوشاقية وراءه، ومشت الطبرداريه حوله حتى يدخل الدهليز الأول، ثم ينزل ويدخل إلى الشقة وهي خيمة مستديرة متسعة، ثم منها إلى شقة مختصرة، ثم إلى لاجوق، ومدار كل خيمة من جميع جوانبها من داخل سور خركاه.
وفي صدر ذلك اللاجون قصر صغير من الخشب ينصب له للمبيت فيه، وينصب بإزاء الشقة الحمام بالقدور والرصاص والحوض على هيئة الحمام المبني في المدن، إلا أنه مختصر، فإذا نام طافت به المماليك دائرة بعد دائرة، وطاف بالجميع الحرس، وتدور الترفة حول الدهليز في كل ليلة مرتين الأولى عندما يأوى إلى النوم والثانية عند قعوده من النوم، كل زفة يدور بها أمير بابدار، وهو من أكابر الأمراء، وحوله الفوانيس والمشاعل والطبول والبياته وينام على باب الدهليز النقباء وأرباب الدول، والنوب من الحذم.
ويصحب هذا السلطان في أسفاره من غالب ما تدعو الحاجة إليه حتى يكاد يكون معه مارستان لكثرة من معه من الأطباء وكثرة أرباب الكحل والجراح والأشربة والعقاقير وما يجري مجرى ذلك، وكل من عادة طبيب ووصف له ما يناسبه يصرف من الشراب خاناه والدواخاناه المحمولين في الصحبة.
ومن عادة هذا السلطان من السماط طرفي النهار في كل يوم لعامة الأمراء خلا البرانيين وقليل ما هم، وأما بكرة فيمد سماط أول لا يأكل منه السلطان، ثم كان بعده يسمى الخاص قد يأكل منه السلطان وقد لا يأكل، ثم ثالث بعده ويسمى الطارىء ومنه مأكول السلطان.
وأما في أخريات النهار فيمُد سماطان الأول والثاني المسمى بالخاص ثم إن استدعى بطار حضر، وإلا فلا خلا المشوى منه فإنه ليس له عادة محفوظة النظام، بل هو على حسب ما يأمر به.
وفي كل هذه الأسمطة يؤكل ويفرق نوالات، ويُسقى بعدها الأقسماء المعمولة من السكر، والأفاويه المطيبة بماء الورد والمبردة، ومن عادة هذا السلطان أن يبيت قريب مبيته في كل ليلة أطباق فيها أنواع من المطجنات والبوارد والقطر والقشطة والجبن المقلي والموز والكيماخ، وأطباق فيها الأقسماء والماء المبرد برسم أرباب النوبة في السهر حوله ليتشاغلوا بالمأكول والمشروب عن النوم.
والليل مقسوم بالنوبة بينهم على الساعات الرمل فإذا انتهت نوبة، نبهت التي تليها، ثم ذهبت هي فنامت (هي) إلى الصبح هكذا أبداً سفراً وحضراً، وتبيت في المبيت المصاحف الكريمة لقراءة من يقرأ منهم، ويبيت الشطرنج ليتشاغل به عن النوم.
وهذا السلطان يخرج أيام الجمع إلى الجامع المجاور لقصره في القلعة، ومعه خاصة الأمراء، ويجيء بقية الأمراء من باب آخر للجامع، وأما السلطان فيصلى عن يمين المحراب في مقصورة خاصة به ويجلس عنده أكابر خاصته، ويصلي معه الأمراء خاصتهم وعامتهم خارج المقصورة عن يمينها ويسرتها على مراتبهم، فإذا سمع الخطبة وصلى صلاة الجمعة، دخل إلى قصوره ودور خدمه وحرمه، وتفرق الناس كل واحد إلى مكانه.

ذكر انتهاء الأخبار إليه

عادة هذا السلطان أن يطالعه نوابه في مملكته مما يتجدد عندهم من مهمات الأمور أو ما قاربها، وتأخذ أوامره، وتعود أجوبته عليهم بما يراه، وبين السلطان وجميع بلاد ممالكه مراكز بين المركز والمركز أميال، في كل مركز عدة خيل بريد للسلطان من الجند أناس بريديه في حضرته، وفي كل بلد لحمل الكتب والعود بأجوبتها، فإذا ورد بريدي بلد من بلاد مملكته أو عاد المجهَّز من بابه، أحضره أمير جاندار، وهو من أمراء المئين، والدوادار وكاتب السر بين يديه، فيقبل الأرض ثم يأخذ الدوادار الكتاب فيمسحه بوجهه البريدي، ثم يناوله السلطان، فيفتحه، ويجلس كاتب السر، فيقرأه عليه، ويأمر فيه بأمره.
ومما ينهى إليه من الأخبار ما يكتب في ورق خفيف صغير ويحمل على الحمام الأزرق، وللحمام مراكز كل مركز منها ثلاثة من مراكز خيل البريد أو أزيد، لا يتعدى الحمام ذلك المركز، ولا يمكنه تجاوزه، فإذا حمل الكتاب خلوه بنوع مغزى ليعرف، فلا يعارض ثم يسرح، فإذا وصل إلى المركز المعد له أخذ عنه، ونقل على حمام غيره، من ذلك المركز من مكان إلى مكان إلى حضرة السلطان.

أما قلعة الجبل فهي على نشز عالٍ يسمى الجبل الأحمر من تقاطيع جبل المقطم بناها قراقوش للملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب رحمه الله، ولم يسكنها حتى ملك أخوه العادل أبو بكر فسكنها، وهي مبنية على ذلك النشز، ترتفع في موضع منه وتنخفض في آخر، يدور بها سور حجر بأبراج وبدنات إلى أن ينتهى إلى القصر الأبلق الناصري المستجد بناؤه، ثم من هناك تتصل بدور الملك، ليست على أوضاع أبراج القلاع، يدخل إلى القلعة من بابين أحدهما؛ بابها الأعظم مواجه القاهرة، والثاني ينفذ إلى القرافة، وبينهما ساحة فسيحة في جانبيها قبلة بشرق، وشمالاً بغرب بيوت وبالقبلى سوق للمأكل، وينتهى من صدر الساحة إلى دركاه جليلة يجلس بها الأمراء حتى يؤذن لهم بالدخول، وفي وسطها باب القلعة يدخل منه في دهاليز فسيحة إلى ديار وبيوت ومساكن وإلى المسجد الجامع، وقد كان لا مسجد لضيق بنائه، فبناه هذا السلطان بناءً متسع الأرجاء، متسع البناء، مفروش الأرض بالرخام، مبطن السقوف بالذهب، وفي وسطه قبة علية تليها المقصورة مستورة هي والرواقات بالشبابيك الحديد المحكمة الصنعة، ويحف صحنه رواقات من جهاته، ويمشي من دهليز باب القلة المقدم ذكره في مدخل أبواب إلى رحبةٍ فسيحة في صدرها الإيوان الكبير، المعد لجلوس أيام المواكب، وإقامة دار العدل، وبجانب الرحبة ديار جليلة، وفي محنته ممر إلى باب القصر الأبلق تليه رحبة صغيرة، يجلس هناك خواص الأمراء قبل دخولهم إلى الخدمة الدائمة، ويمشى من باب القصر في دهاليز إلى قصر عظيم البناء شاهق في الهواء بإيوانيين أعظمهما الشمالي بطل منه على الاصطبلات السلطانية ويمتد النظر إلى سوق الخيل والقاهرة وحواضرها إلى بحر النيل وما يليها من بلاد الجيزة وقراها.

وفي الإيوان الثاني القبلي باب خاص لخروج السلطان وخواصه منه إلى الإيوان الكبير إلى أيام المواكب، ويدخل من هذا القصر إلى ثلثه قصور جوانية منها واحد مسامت الأرض هذا القصر الكبير، وإثنان مرفوعان يصعد إليهما بدرج في جميعها شبابيك حديد تخترق إلى مثل منظر القصر الكبير، وفي هذه القصور مجاري الماء مرفوعاً من النيل بدواليب تديرها الأبقار من مقره إلى أخرى حتى ينتهي إلى القلعة ثم يدخل إلى القصور السلطانية ودور أكابر الأمراء الخواص المجاورين للسلطان يجرى في دورهم، وتدور به حماماتهم وهو من عجائب الأعمال لرقعته مما يقارب خمسمائة ذراع من مكان إلى مكان، ويدخل من القصور الجوانية إلى حرم الحريم وأبواب الستور السلطانية.
وهذه القصور جميعها من ظاهرها بالحجر الأسود والأصفر، مؤزرة من داخلها بالرخام والفص المذهب والمشجر بالصدف والعجون والطرقات وأنواع الملونات والسقوف المبطنة بالذهب واللازورد يخرق الضوء في جدرانها بطاقات من الزجاج القبرس الملون كقطع الجوهر المؤلفة في العقود، وجميع الأرض بها مفروشة بالرخام المنقول إليها من أقطار الأرض مما لا يوجد مثله، فأما الأدُر السلطانية مغلى ما صح عندي خبرة ذوات بساتين وأشجار وساحات للحيوانات البديعة والأبقار والأغنام والطيور والدواجن وباقي داخلها يعني القلعة للمالك السلطانية وخواص الأمراء بنسائهم وحرمهم ومماليكهم ودواوينهم وطشت خاناتهم وفراش خاناتهم وشراب خاناتهم ومطابخهم ووظائفهم.
والقلعة بها مساكن لأكابر الأمراء ومن كبر من الطبلخانات والعشرات، ومن خرج عن حكم الخاجكيه إلى طبقة البرانيين، ودار الوزارة ودار كاتب السر وديوان الإنشاء وديوان الجيوش وديوان الأموال والنقباء والزردخاناه والحبوس والأسرى وما يجري في هذا المجرى، مقسمة المساكن، فيها المساجد والحوانيت والأسواق في جهاتها، هذه جملة العمارة.
ثم نذكر بقية ما يتعلق بالقصر السلطانية فنقول: أنه ينزل منه في جانب إيوان القصر إلى الإصطبلات السلطانية ثم إلى ميدان ممرج بالنجيل الأخضر فاصل بين الاصطبلات وبين سوق الخيل، في غربيه، فسيح المدى يسافر النظر في أرجائه، يركب السلطان من درج يلي قصره الجواني وينزل إلى الاصطبل الخاص ثم إليه راكباً وخواص الأمراء في خدمته لعرض الخيول في أوقات طعم الطير، وربما وقف به راكباً، وربما نزل فيه، ولم ينصب عليه خيام وربما نصب عليه الخيام إذا طال مكثه، وكان زمان حر أو برد، وربما مد به السماط ثم يطلع راكباً إلى قصره.
وبهذا الميدان أنواع من الوحش المستحسن النظر، وتربى به خواص الخيول للتفسح، وفي هذا الميدان يصلى السلطان وخواصه ومن لا يقدر يفارقه من ذوي الخدم، صلاة العيدين، ونزوله إليه وطلوعه، منه من باب خاص من دهليز القصر غير هذا المعتاد النزول منه لما قدمنا ذكره، وللسلطان عدة أبواب سر إلى القرافة وإلى غيرها، لا حاجة لنا إلى ذكرها.
قلت: هذه القصور والأيوان الكبير، والميدان الأخضر، والجامع، وغالب العمائر الضخمة بالقلة، والقلعة عمارة هذا السلطان، وبناؤه مطرزة الطرز فيها بألقابه واسمه، ترد الطرف كليلاً بأنوارها، وترف القلوب على ما تفتح من نقوش نوارها، تقر الملوك بها، لعلو هممه وسعة إنفاقه وكرمه، تقف عليها الأبصار ويعرف من رآها أنه هان عليه العدو والدينار.

القاهرة

مدينة عظيمة مبنية في وطأة نائية عن ذروة الجبل، أرضها سباخ، ولأجل هذا يعجل إلى مبانيها الفساد

والفسطاط المسمى الآن على ألسنة العامة بمصر مدينة مبنية على ضفة النيل الشرقية، وقد بُنى قبالتها في الجزيرة المبنى بها المقايس، أبنية كثيرة، صارت كأنها فرقة من مصر، ومجرى النيل بينهما لمنظره بينهما عند امتداد ضوء القمر، أو إيقاد السرج بالليل، منظر يجذب القلوب وكل من مصر والقاهرة وحواضرها الممتدة ذات رباع عليه مبلغ بعضها أربع طبقات، في كل طبقة مساكن كاملة بمنافعها ومترفقها، وسطح مقتطع لها من الأعلى بهندسة محكمة وصناعة عجيبة مع كوّن البيوت بعضها تحت بعض، لا يرى مثل صناع مصر في هذا الباب، وفي كل من هاتين المدينتين وحواضرهما، القصور الشاهقة والديار العظيمة والمنازل الرحيبة، والأسواق الممتدة، والمدارس والخوانق، والربط والزوايا، والجميع على اتساع رقعة البناء، وفسحة الشوارع مزدحمة بالخلق سكناً وممشى، قد حشرت إليها الأمم، واختلفت إليها أنواع الطوائف.
وقال لي غير واحد ممن رأى المدن الكبار، والخطط العظام في مشارق الأرض ومغاربها، وبعيدها ومتقاربها: أنه ما رأى مدينة اجتمع فيها من الناس ما اجتمع هي مصر والقاهرة وحواضرهما قال لي الصدر مجد الدين اسماعيل السلامي، وقد سألته عن بغداد وتوريز، وهل يجمعان مثل مصر؛
فقال: في مصر خلق قدر كل من هو في جميع البلاد منها إلى توريز وغالب من فيها من العوام والباعة وأهل المهن والصنائع.
كما قال القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني رحمه الله: أهل مصر على كثرة عددهم، وما ينسب من وفور المال إلى بلدهم، مساكين يعملون في البحر، ومجاهيد يدانون في البر، وأحمله على أنه قصد السجعة، إذ كل بلد فيها مجاهيد في أعمالهم، وما زال هذا في خاطري لا زيادة عندي عليه إلى أن أقمت بمصر، وسافرت في صحبة السلطان، غالب بلادها فرأيت خلقاً ممن عليهم أرض مسجلة، قد ركب المنخفص فيها، ولم يركب العالي وهم وقوف كل اثنين على مستنقع ماء، وبأيديهما قفة بخيط في أذنيها، وهما يترفان الماء بها، ضرباً باليد إلى ورائهما من مقرة محفورة، يجتمع ما ينزح منها، ثم يصرف في مجاري إلى تلك الأعالي، ثم التي لم يركبها الماء ليسقوها، وهم من هذا في جهد جهيد، وأمر شديد، فعلمت أن هؤلاء الذين أراد القاضي الفاضل رحمه الله مجاهيد يعملون في البر، فإنه ليس في البلاد أشد جهداً منهم وأنهم ملزمون بدرهم معين، وأردب معين، فإن لم يعملوا هذا أضنكم الطلب، ولم يجدوا جهة الوفاء.