المحتوي
- 1 تعاليم الإسلام
- 2 إشارات القرآن الكريم للعناية بالنبات
- 3 الأحاديث النبوية وأثرها في تقدُّم علم الصيدلة والنبات
- 4 اتساع الإمبراطورية الإسلامية
- 5 تقدم علم الكيمياء عند المسلمين وأثره في تقدم علم الصيدلة
- 6 أثر علم وعلماء النبات في تقدم علم الصيدلة
- 7 الترجمة وأثرها في ازدهار وتقدم الصيدلة
- 8 أثر الخلفاء ورجال الدولة في تقدم علم الصيدلة
كان العصر العباسي هو العصر الذي شهد التقدم العلمي للعرب في جميع ميادين العلم والمعرفة، وكان على رأس المجالات التي تفوق فيها العرب في ذلك العصر مجال الطب والصيدلة، وقبل الخوض في شرح تطور وتقدم علم الصيدلة في هذا العصر لا بد أولًا من إلقاء الضوء على بعض العوامل التي ساعدت على ازدهار هذا العلم وتقدمه، وهي عوامل كثيرة ومتعددة نوجزها في الآتي:
تعاليم الإسلام
لقد جاء الإسلام بمفهوم جديد للمرض يختلف عن الديانات السابقة التي كانت تنظر للمرض على أنه عقاب من الله يصيب الإنسان جزاء له على معصية ارتكبها، وبهذا المفهوم يقتصر العلاج على رجال الدين الذين يقومون بالطقوس والدعاء بطرد الشياطين، ولما كان الناس في العصور الوسطى في أوربا يمتنعون عن العلاج والدواء ومراجعة الأطباء، ويعتبرون ذلك تحديًا لإرادة الله([1]).
أما الإسلام فقد اعتبر المرض قضاء الله وقدره، ويصيب الناس جميعًا؛ المحسن والمسيء، وأمر بالبحث عن الدواء النافع، وبزيارة الطبيب المختص فقال رسول الله ﷺ: «تداووا عباد الله؛ فإن الله لم يخلق داء إلا جعل له دواء»، وبذلك نفى عن رجال الدين سلطة علاج الناس، واعترف بالطب والأطباء والأدوية الناجعة([2]).
وبمقارنة ذلك بما ذكره (برنارد شو) في كتابه (حيرة الأطباء) من أن المسيحيين المخلصين كانوا يطيعون تعاليم رجال الكنيسة ويستغنون عن الأطباء، حتى اضطرت انجلترا لاستصدار قانون في القرن التاسع عشر الميلادي يقضي بتوجيه تهمة القتل إلى كل أب يموت ابنه لعدم عرضه على طبيب([3]).
إشارات القرآن الكريم للعناية بالنبات
أيضًا من العوامل التي ساعدت على تقدم وازدهار الصيدلة في العصر الإسلامي: ما ورد في القرآن الكريم بشأن النباتات المختلفة بذكر أسمائها وأنواعها، فقد وردت النباتات والزروع والحب والخضروات ومنتجاتها من بقول وعدس وبصل وخردل وريحان، وذكر الأجزاء المكونة للنباتات مثل الورق، والطلع، والازدهار، والسنابل والثمار في آيات عديدة من القرآن الكريم، بلغت مائة واثنتي عشرة آية وردت في سبع وعشرين سورة([4]).
ومن تقرير مبدأ أن الخالق القدير قد أوْدَعَ في كل بيئة ومنطقة أمراضًا وعللًا، وفيها علاجها ودواؤها، وما على العلماء إلا الاهتمام بهذه الثروة من النباتات واستخراج منافعها.
ولقد اهتم عدد كبير من الباحثين بدراسة هذه النباتات القرآنية، فاستخرجوا منها العلاج، وما زالوا يرون فيها الكثير من الأسرار([5]).
ومن الإشارات الهامة التي وردت في القرآن الكريم وكان لها أثر في لفت نظر المسلمين إلى الصيدلة والدواء والعلاج: ما وَرَدَ في سورة النحل الآيتان 68، 69، قال تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكُي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾([6]).
ولقد أثبت العلم الحديث ما اشتملت عليه هذه الآية من نواحي طبية وصيدلانية هامة، فعسل النحل هو أقدم طعام حلو عرفَهُ الإنسان، ثم هو مورد خصب للمواد الغذائية النافعة للجسم، ويحتوي العسل على حمض يعالج الكثير من الأمراض بالجهاز الهضمي، وله قدرة بالغة على قتل الكثير من الميكروبات التي تسبب الأمراض، وأثبت العلم الحديث أن عسل النحل يحتوي على نسبة كبيرة من السكر مقدارها 75%، ويحتوي على نسبة كبيرة من فيتامين ب ومركباته التي تقاوم الأنيميا، وبالعسل فيتامين ج الذي يقاوم أمراض الدم([7]).
والعسل من العقاقير الفعَّالة في معالجة نزلات البرد، ومفيد في علاج القرح، وله آثار عظيمة في علاج الجهاز العصبي، وهو أفضل علاج للأرق([8])، كما أكد العلم الحديث على أن عسل النحل يُعْتَبر من المُلَيِّنَات القوِيَّة المفعول، وهو في نفس الوقت مطهِّر للأمعاء والمعدة، ويحتوي على طاقة حرارية لا يستهان بها([9]).
وهكذا نرى أنه كان للإشارات الواردة في القرآن الكريم بشأن العسل أثر كبير في لفت نظر أطباء المسلمين وصيادلتهم إليه وإلى الاهتمام به واستخدامه في العلاج وفي تركيب وصنع العقاقير والأدوية، وكان ذلك الأمر دافعًا وعاملًا من العوامل التي أدت إلى اهتمام المسلمين بالصيدلة والعلاج.
الأحاديث النبوية وأثرها في تقدُّم علم الصيدلة والنبات
أُثِرَ عن النبي ﷺ عدد كبير من الأحاديث النبوية تتحدَّثُ عن الأسس العامة التي تدفع المسلمين إلى تعلُّمِ الطب والمهارة فيه، وعرض المريض على الطبيب وتطهير علم الطب من الخرافات والسحر والشعوذة، ومن الكهانة وغير ذلك.
من ذلك حديث النبي ﷺ عن العود الهندي، فعن الزهري قال: أخبرني عبيد الله ابن عبد الله، عن أم قيس، قالت: دخلت بابن لي على رسول الله ﷺ وقد أَعْلَقْتُ عليه مِنَ العُذْرَةِ. فقال النبي ﷺ: «عَلَى مَا تَدْغَرْنَ أَوْلاَدَكُنَّ بِهَذَا العِلاَقِ، عَلَيْكُنَّ بِهَذَا العُودِ الهِنْدِيِّ -أي: الكست- فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، مِنْهَا ذَاتُ الجَنْبِ: يُسْعَطُ مِنَ العُذْرَةِ، وَيُلَدُّ مِنْ ذَاتِ الجَنْبِ»([10]).
والعود الهندي خشب كانت تأتي به العرب من الهند طيب الرائحة، وهو ينفع في مرض المعدة وفي الكبد ووجع الجنب وتقرح الأمعاء، كما أثبت علم الطب النبوي([11]).
وجاء في صحيح البخاري في كتاب الطب ما نصه: عن أبي هريرة ﭬ عن النبي ﷺ قال: «ما أنزل اللهُ داءً إلا أنْزَلَ له شِفَاءً»([12]).
وعن ابن عباس ﭭ عن الرسول ﷺ قال: «الشِّفَاءُ فِي ثَلاَثَةٍ: شَرْبَةِ عَسَلٍ، وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ، وَكَيَّةِ نَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الكَيِّ»([13]).
وعن جابر بن عبد الله ﭭ قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ، فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ تُوَافِقُ الدَّاءَ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ»([14]).
وعن العسل في الأحاديث النبوية ورد عن أبي سعيد: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ، فَقَالَ: «اسْقِهِ عَسَلًا» ثُمَّ أَتَى الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: «اسْقِهِ عَسَلًا» ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: «اسْقِهِ عَسَلًا» ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ؟ فَقَالَ: «صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ، اسْقِهِ عَسَلًا» فَسَقَاهُ فَبَرَأَ([15]).
وعن الحبة السوداء: روى البخاري عن أبي هريرة ﭬ أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «فِي الحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ، إِلَّا السَّامَ» قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَالسَّامُ هو المَوْتُ([16]).
ويروي أن الرسول ﷺ دخل على السيدة عائشة في يوم فوجد عندها امرأة وعلى حجرها طفل، وفقد وضعت أصبعيها في فيه، والدم يخرج حوله، فقال لها: ماذا تفعلين؟ فقالت: أعالجه، فقال لها: ما هكذا يكون العلاج، فسألته ﷺ عن العلاج فقال لها: «عليك بالقسط يخلط بالزيت ويقطر في الأنف».
ولقد قام د. علي مطاوع باستخدام وسائل العلم الحديث لاكتشاف المادة الفاعلة للقسط في علاج التهاب الغشاء المخاطي للأنف والجيوب الأنفية، بعد التأكد من فائدتها البينية في ذلك([17]).
اتساع الإمبراطورية الإسلامية
شاء الله للإمبراطورية الإسلامية أن تكون مترامية الأطراف شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، وأن تكون مسرحًا لحضارة مادية باهِرَة، وثقافة علمية فكرية زاهرة، وشاء لها موقعها الجغرافي أن تكون مركزًا أساسيًّا للتجارة العالمية، ففيها كانت تصب الطرق التجارية الكبرى التي تصل الغرب بالشرق والشمال بالجنوب، طاوية في أضلاعها مسافات شائعة، فإذا أعشاب ونباتات طبية وعقاقير قد أتت من الصين والهند وأفريقيا وسيلان ومالقة وسومطرة وغيرها([18]).
فلقد كان اتساع الإمبراطورية الإسلامية محفِّزًا على ازدهار الطب والصيدلة، فقد شجع على ملاحظة أنواع واسعة من الأدوية، وسهل تبادل الكتابات الطبية الإغريقية بين مَرَاكز فكرية متباعدة عن بعضها، ومن الناحية الأخرى حصد حصيلة من الأبحاث حول قواعد النِّظَام الغذائي التي يجب اتباعها خلال السفر في مناخات مختلفة([19]).
ورغم أن طرق القوافل والتجارة قديمة قدم التاريخ، إلا أن أصحاب الاختصاص في العقاقير الطبية والصيدلية وجدوا ازدهار الطب العربي الإسلامي عندما كثرت العقاقير وتشعَّبَتْ طرق تركيبها، وطالت فاستوجبت مَنْ يُخَصِّص لها وقته، ويكرِّس لها جهده، ويفتِّش عن الأعشاب في كل مكان، وهنا انقسمت مسئولية الطبيب والصيدلاني، وعرفوا ما لهذه الأعشاب الشرقية من فوائد شفائية([20]).
ولقد كان لاتساع الإمبراطورية الإسلامية أثر كبير في ازدهار الصيدلة وتقدمها؛ حيث أتاح هذا الاتساع فرصة كبيرة لعلماء النبات والصيدلة في التجوُّل في مساحات كبيرة من الأرض لمعرفة النباتات الطبية ودراستها ورسمها، وكان لذلك أثر كبير على تطور علم الصيدلة في العصر الإسلامي، كما كان للتنوع المناخي والجغرافي للإمبراطورية الإسلامية دور في تنوع النباتات الطبية، مما أتاح عددًا كبيرًا من النباتات التي صنع منها العديد من العقاقير.
تقدم علم الكيمياء عند المسلمين وأثره في تقدم علم الصيدلة
مما لا شك فيه أن هناك ارتباطًا كبيرًا بين علم الكيمياء وعلم الصيدلة؛ لأن أغلب العقاقير والأدوية تم تحضيرها وإعدادها بمزج العناصر الكيميائية المختلفة، والصيدلة هي بمثابة إتكاءة بين الطب والصيدلة، وازدهار علم الكيمياء عند العرب ساعد بشكل كبير ومباشر في ازدهار وتقدم علم الصيدلة.
فجابر بن حيان الأزدي هو مؤسس علم الكيمياء في العصر الإسلامي، وهو الذي أوجد طفرة وازدهارًا لهذا العلم، وكان له الفضل في ابتكار المنهج التجريبي، وخالف نظرية أرسطو بصدد العناصر الأربعة من خلال تجاربه([21]).
وتوصل جابر بن حيان إلى معرفة الكثير من العمليات الكيميائية؛ كالتقطير والتبخير، والترشيح([22])، ونجح في الحصول على حامض الخليك وكلوريد الزئبق والصودا وكربونات الصوديوم، وهو أوَّل مَنْ حَضَّرَ ماء الذهب واكتشف مركبات النحاس([23]).
ثم جاء أبو بكر الرازي الذي أكمل مسيرة ابن حيان في مجال الكيمياء، واستخدم الكيمياء في مجال الطب والصيدلة، فكان الرازي أول من استخدم الزئبق كمرهم لعلاج الأمراض الجلدية، وأكد على أهمية الممارسة والخبرة والتجربة في علاج الأمراض بالمواد الكيماوية، وعدها أفضل من قراءة الكتب الطبية فقط([24]).
وهكذا نجد أنه كان لجهود علماء المسلمين في هذا المجال أكبر الأثر في نمو علم الكيمياء الحديث([25])، حيث نجح علماء المسلمين في استخدام أدق الآلات والموازين والمكاييل التي أفضت إلى اكتشاف الكثير من المركبات الكيميائية، وتوصل المسلمون إلى ما يُعْرَف بالكيمياء الصناعية([26]).
لقد انعكس تقدم المسلمين المذهل في علم الكيمياء على الكثير من العلوم، لا سيما علم الصيدلة؛ حيث استخدم المسلمون الكيمياء، وتوصَّلُوا من خلال تجاربهم الكيميائية إلى العديد من التركيبات التي كان لها قوة شفائية وعلاجية، الأمر الذي عاون على إبراز أهمية علم الكيمياء في مجال الطب والصيدلة؛ إذ يدين علم (الصيدلة) للكيمياء بسلسلة من أشكال العقاقير؛ كالشراب الحلو والجلاب والروب، وتغليف الأدوية المرة المذاق بغلاف من الذهب والفضة([27]).
إن نجاح علم الكيمياء في العصر الإسلامي في تطوير العديد من العمليات الكيميائية، كل ذلك انعكس على تقدم وتطور وازدهار علم الصيدلة عند
المسلمين([28]).
أثر علم وعلماء النبات في تقدم علم الصيدلة
لقد كان لتقدم وازدهار علم النبات عند المسلمين أثر كبير في تقدم وازدهار علم الصيدلة، فقد كانت عناية العلماء المسلمين بعلم النبات كبيرة، وكان أنصاره أكثر من أنصار علم الحيوان، ولعل ذلك يعود في المقام الأول للعلاقة الوثيقة بين النبات والطب والصيدلة حيث كان ما لا يقل عن تسعة أعشار العقاقير المتداولة في العلاج من النباتات، أو من خلاصات نباتية، حتى إنه كان يطلق على الصيادلة في وقت من الأوقات اسم العشَّابِينَ.
ولقد كان كتاب الحشائش أو الأدوية المفردة لديسقوريدس في مجال النبات من أهم الكتب التي اعتمد عليها علماء المسلمين في هذا المجال([29])، كما نقل علماء المسلمين أيضًا بعض مؤلفات جالينوس في علم النبات أهمها كتاب النبات، ومقالة في خواص الحشائش، ونقلوا كتاب الفلاحة لأناطوليوس([30]).
والحق أن جهود علماء المسلمين في مجال النبات لم تقتصر على ترجمة ونقل كتب التراث القديم، بل تجاوزتها إلى مرحلة الدراسة والملاحظة والتجربة والتأليف، والغريب أن علماء اللغة هم أول من ألَّف المعاجم التي ضمت العديد من النباتات والأشجار([31]).
ثم اهتم بعلم النبات فريقٌ آخر من الأطباء والصيادلة الذين خلفوا لنا العديد من المؤلفات التي تبحث في النباتات والأعشاب الطبية، وما يستخرج منها من أدوية وعقاقير أي من وجهة النظر العلاجية وليس من الناحية الفلاحية([32]).
إن عناية علماء المسلمين بعلم النبات ودراستهم العملية له قد أفضت في النهاية إلى التعرف على خصائص وصفات جديدة للعديد من النباتات لم تكن معروفة من قبل، كما أدت إلى اكتشاف نباتات جديدة عن طريق استخدام أسلوب التطعيم، ونجحوا في إكساب بعض النباتات خصائص جديدة عن طريق دس الطيب والحلاوة والترياق والأدوية المسهلة في بعض الأشجار المطعمة([33]).
إذن فلقد كان لازدهار علم النبات في العصر الإسلامي أثر كبير على تقدم وازدهار علم الصيدلة، وذلك للعلاقة الوثيقة بين الصيدلة والنباتات، من حيث كون النباتات المصدر الأساسي لأغلب الأدوية والعقاقير، لذلك فليس غريبًا أن نرى بعض أطباء وصيادلة المسلمين على دراية واسعة بعلم النباتات والأعشاب الطبية، بل إنهم ألفوا فيه الكتب، وأتاح لهم معرفتهم وتبحرهم في علم النبات الوقوف على إيجاد الكثير من الأدوية والعلاجات والعقاقير المستخلصة من النباتات المختلفة.
الترجمة وأثرها في ازدهار وتقدم الصيدلة
لقد كان للترجمة الأثر الأكبر والفعال في ازدهار وتقدم علم الطب والصيدلة في العصر الإسلامي، حتى إنه يمكننا اعتبارها بمثابة الأساس القوي الذي أقام عليه علماء المسلمين صرحهم الرائع في مجال الطب والصيدلة.
فبفضل حركة الترجمة التي استطاع المسلمون التعرف على التراث الثقافي العلمي الطبي والصيدلي لأهالي البلاد المفتوحة، ذلك أن جهود علماء المسلمين لم تتوقف في الواقع عند حد النظر والاجتهاد، بل عمدوا أيضًا بفضل ما أثاره الإسلام فيهم من حماسة للعلم، وما حثهم عليه من تسامح إزاء الديانات الأخرى، والثقافات إلى التزود بقسط وافر من علوم الفرس واليونان والهنود والمصريين عن طريق نقلها إلى العربية([34]).
ولم يدخر المسلمون جهدًا في العمل على نقل علوم السابقين عليهم، فقد شجع أمراء بني أمية وبني العباسي هذه الاستدانة العلمية المثمرة، وأرسل الخليفة أبو جعفر المنصور ومن بعده المأمون والمتوكل أرسلوا الرسل إلى القسطنطينية وغيرها من المدن الرومانية يطلبون أن يمدوهم بالكتب اليونانية وخاصة كتب الطب([35]).
وما يهمنا من حركة الترجمة إلى العربية ما يتعلق منها بكتب الطب والصيدلة، والتي كانت من أهم عوامل ازدهار وتقدم الصيدلة عند المسلمين بعد اطلاعهم عليها والاستفادة منها والإضافة إليها.
وفي هذا السياق لا يمكننا أن نغفل دور السريان عامة والنساطرة خاصة، والذين قاموا بدور متميز في هذا المجال، خاصة في العصر العباسي؛ حيث قادوا حركة الترجمة من السريانية واليونانية إلى العربية، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل ظهر منهم عدد كبير من العلماء الذين أسهموا من خلال مؤلفاتهم في إثراء وتقدم مجالي الطب والصيدلة بصفة خاصة([36]).
وكان انتقال آل بختيشوع من جنديسابور إلى بغداد نقطة تحول في تاريخ الطب والصيدلة العربية الإسلامية، لا سيما وقد انتقل معهم إلى بغداد التراث السرياني واليوناني والفارسي الهندي([37]).
وقد اشتهر بين التراجمة السريان ثيوفيل بن توما الرهاوي الذي نقل من السريانية كتب جالنيوس([38]).
وجورجيس بن بختيشوع رئيس أطباء مارستان جنديسابور الذي كان يجيد اليونانية والسريانية والفارسية والعربية، ونقل للخليفة المنصور بعض كتب الطب من اليونانية([39]).
كذلك هناك أبو يحيى البطرق الذي نقل إلى العربية في عصر الخليفة المنصور عن اليونانية بعض كتب جالينوس وأبقراط([40]).
كذلك هناك الجيل الثاني من التراجمة الذي بدأ في ولاية المأمون، واشتهر من تراجمة هذا الجيل قسطا بن لوقا البعلبكي وحنين بن إسحق وابنه إسحق بن حنين، وعيسى بن يحيى وثابت بن قرة وغيرهم.
أما تراجمة الدور الثالث والذي بدأ عام 300 هـ فأشهرهم جميعًا حنين بن إسحق شيخ تراجمة العصر العباسي الذي ترجم كتاب البرهان لجالينوس، وترجم تسعة من كتب أبقراط، وخمسة وتسعين كتابًا من كتب جالينوس([41]).
لقد اتجه المترجمون منذ القرن الأول من خلافه بني العباس إلى ترجمة الكتب الطبية من اليونانية إلى السريانية، ومن السريانية إلى العربية، وكان أكبر نبع نهل منه المترجمون إلى العربية طب اليونان، فمثلًا في تراث أبي الطب القديم أبقراط، وإمام الطب في عصر الإسكندرية جالينوس، ولما كان الطب العربي -كما يقول بعض المستشرقين- قد نما ونضج وتطور في جو من الإعجاب بأبقراط وبإلهام مباشر من جالينوس كان إغفال الحديث عن تراثهما يفضي إلى جهل بتاريخ الطب عامة والعربي منه بوجه خاص([42]).
فلا عجب بعد هذا كله أن كان الطب اليوناني أعظم نبع نهل منه العرب في عصورهم الوسطى، ولم يكد عصر الترجمة ينصرم حتى كانت مؤلفات أبقراط وجالينوس وديسقوريدس وغيرهما قد أصبحت في متناول أطباء المسلمين الذين لم يلبثوا كالعادة أن فاقوا أساتذتهم، فأقبلوا أولًا على فحص ما جاء في هذه الكتب من معلومات، وصحَّحُوا ما ورد فيها من أخطاء، ثم أضافوا إليها الكثير من خلال ما وضعوه من مؤلفات طبية جديدة نتيجة للتجربة والملاحظة([43]).
أثر الخلفاء ورجال الدولة في تقدم علم الصيدلة
لقد كان للخلفاء وكبار رجال الدولة في العصر الإسلامي الأثر الأكبر في ازدهار وتقدم علوم الطب والصيدلة، فلولا رعايتهم للعلم والعلماء وتشجيعهم وإغداقهم الأموال ما كان هذا التقدم العلمي المذهل في العصر الإسلامي.
وعندما سمع الخلفاء العباسيون الأولون الكثير عن الطب اليوناني، ووجدوه علمًا عظيم الفائدة، وأنه لا يليق بدولتهم أن تغفله، ففعلوا ما تفعله كل أمة في أول نهضتها فاستقدموا الخبراء، وأرسلوا البعثات إلى مواطن العلم الذي يريدون اقتباسه([44]).
فقد أمر الخليفة هارون الرشيد بجمع كل ما يمكن جمعه من الكتب اليونانية والسريانية وغيرها، محاولًا بذلك أن يتأسس العلم في بغداد، وأن يعلم العرب هذه العلوم، كما كان الخليفة المأمون شغوفًا بالعلم بالطب والأطباء، فأصبح بيت الحكمة في عهده أشبه بأكاديمية العلوم([45]).
كذلك شجع الخلفاء على التأليف وتأسيس المكتبات الضخمة وجمع المؤلفات من الشرق والغرب، كما فعل الخليفة المستنصر في الأندلس وجمع في مكتبته أربعمائة ألف مجلد، وكانت تحت رعاية طبيبه الخاص أبو القاسم الزهراوي([46]).