هو أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي الأندلسي، ويكنى كذلك بالأنصاري، ولد بالزهراء بالقرب من قرطبة، حيث عاش وتعلم ومارس المهنة، وتوفي وكان طبيب الحكم الثاني([1]). ولد الزهراوي عام 325هـ/936م، وعاش سبعة وسبعين عامًا، وتوفي عام 404هـ/1013م([2]).
ذاعت شهرة الزهراوي كأمير للجراحة في عصره؛ حيث ساهم في تطوير وتقدم الجراحة في العصور الوسطي، ولكن ما يهمنا في هذا البحث من تراث الزهراوي ومؤلفاته هو إلقاء الضوء على الزهراوي الصيدلي ودوره في تقدم وازدهار علم الصيدلة في العصر الإسلامي. ومن أشهر مؤلفات الزهراوي في مجال الطب والصيدلة (كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف)، وهو موسوعة طبية تقع في ثلاثين جزءًا، ومزودة بأكثر من مائتي شكل للأدوات والآلات الجراحية التي كان يستخدمها ومعظمها من ابتكاره([3]).
والواقع أن ما يهمنا من كتاب التصريف هو إلقاء الضوء على الجانب الصيدلي به وليس الطبي. والحقيقة أن عدم تقدير الزهراوي كصيدلي يرجع إلى أن المؤلفين العرب وغيرهم -وإن ذكروا كتاب التصريف- إلا أنهم لم يعطوا معلومات وافية عن جميع مقالاته، ولم يهتموا إلا بالجزء الخاص بالجراحة والطب، رغم أن كتاب التصريف لا يحوي إلا مقالتين مخصصتين للجراحة، أما باقي مقالاته فهى خاصة بالأدوية، بحيث يمكن اعتباره صيدليًّا أكثر منه جراحًا([4]).
ويمكن الوقوف على مهارة الزهراوي في مجال الصيدلة من خلال ما أشار إليه ابن أبي أصيبعة في كتابه عن ذلك فقال: «أنه كان طبيبًا فاضلًا خبيرًا بالأدوية المفردة والمركبة جيد العلاج»([5]).
إن كتاب التصريف من عناوين مقالاته الثلاثين يتبين بوضوح اهتمام الزهراوي بالصيدلة وتعمقه فيها؛ فالمقالة الأولى والثانية في الطب والعلاج، وكذلك في تركيب الأدوية، والمقالة الثلاثون في الجراحة، أما باقي المقالات فمعظمها في الأدوية المركبة، وفي علاج مختلف الأمراض، وكذلك في الأشكال الصيدلية وطرق تحضيرها وتعاطيها وجرعاتها([6]).
إن كل مقالة من مقالات كتاب التصريف تكاد تكون كتابًا مستقلًا، و27 مقالة من الكتاب في العلوم الصيدلية، وتضم كل مقالة مجموعة من الأبحاث الهامة المتعلقة بتحضير الأدوية المفردة والمركبة، بحيث تؤلف في مجموعها أقراباذنيًّا ضخمًا لم يظهر في تاريخ الطب العربي مؤلف صيدلي يوازيه، فيما عدا أقراباذين ابن سينا، وأقراباذين القلانسي، وكلاهما قد صدر في شرق العالمين العربي والإسلامي، ومع ذلك فإن كتاب التصريف قد ضم أبحاثًا مبتكرة وأفكارًا جديدة في العلوم الصيدلية لم يذكرها ابن سينا والقلانسي في مؤلفيهما.
ولقد صنف الزهراوي الأدوية المركبة الواردة في المقالات السابقة علي شكلين:
أولًا: صنفها حسب شكلها الصيدلاني، فهناك المعاجين والحبوب والأشربة والمطبوخات.
ثانيًا: صنفها بحسب تأثيرها الدوائي فجعلها في زمر منها الأدوية القلبية، وأدوية الباه وغيرها. إن كل مقالة من مقالات الزهراوي في الصيدلة تستحق أن يفرد لها بَحْث خاص لدراستها بعمق وإمعان، وإن كانت المقالة رقم 28 كان لها تأثير كبير في تطوير بعض الأعمال الصيدلية والصناعية، خاصة بعد أن ترجمت إلى العبرية واللاتينية([7]).
ففي المقالة الثالثة من الكتاب وصف الزهراوي المعاجين التي تخمر وتدخر، والعقاقير التي اعتاد الحكماء تركيبها على طول الزمن، وكرروا تجربتها وتيقنوا مفعولها.
اما المقالة الرابعة فهي في عمل الترياق، ولا سيما الترياق الفاروق في ذكر الأدوية المفردة النافعة من جميع السموم.
والمقالة الخامسة من الكتاب في الأرياجات (الدواء المر) وتدبير ادخارها وتخميرها([8]).
والمقالة السادسة من الكتاب تناولت صفات الأدوية المسهلة من الحبوب المرة المدبرة في جميع الأمراض.
والمقالة السابعة في صفات أدوية القيء والحقن والشيافات والفتايل، والمقالة الثامنة من الكتاب فهي في الأدوية المسهلة اللذيذة الطعم المألوفة والمأمونة، والمقالة التاسعة في أدوية القلب، والعاشرة في صفات الأطريفلات والمسهلات، والمقالة الحادية عشرة في صفات الجوارشنات والكمونيات، وما يشبه ذلك من المعاجين([9])، والمقالة الثانية عشرة من الكتاب في أدوية الباه والمسمنة للأبدان والمهزِّلَة والمُدَرِّة للبن، والمقالة الثالثة عشرة في الأشربة والربوب، أما المقالة الرابعة عشرة فهي في والطبوخات والنقوعات المسهلة وغير المسهلة، والمقالة الخامسة عشرة في المربيات ومنافعها وحكمة ترتيبها وادخارها، والمقالة السادسة عشرة فهي في الأقراص المسهلة وغير المسهلة وبيان تركبيها وطريقة صنعها.
أما المقالة الثامنة عشرة فهي في السعوطات والقطورات والبخورات والدورات والغراغر([10])، والمقالة العشرون في الأكحال واللطخات، والمقالة الحادية والعشرون فهي في الأدوية المفيدة لوجع الأسنان والحلق واللثة والفم، وأدوية لعلاج الذبحة، وضيق التنفس وغير ذلك مما ينفع في خشونة الصوت، أما المقالة الخامسة والعشرون فهى في ذكر الأدهان البسيطة والمركبة التي تعالج بعض الأمراض، وخواص الأدوية وإصلاحها ومنافعها ودرجاتها في الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة([11]).
أما المقالة الثامنة والعشرون من الكتاب فهي في غاية الأهمية، وقسمها الزهراوي إلى ثلاثة أقسام، هي:
الأول: في تدبير الأحجار المعدنية.
الثاني: في تدبير العقاقير النباتية.
الثالث: في تدبير الأدوية الحيوانية.
ففي القسم الأول تكلم عن العمليات الفيزيائية من غسل وترويق وترشيح وتخفيف، بالإضافة إلى العمليات الكيميائية التي تشمل الإحراق والتكلس والمعالجة بالكبريت أو بالخل، ولقد تميز الزهراوي في هذا القسم بالآتي:
- جمع الزهراوي أملاح كل معدن وأكاسده وفلزاته، كما تقدم فتكلم عن كل منها على انفراد، يضاف إلى ذلك الطرف التي يمكن أن تؤدي إلى استحصال مركب معدني معين كما حصل في تحضير الإسفيداج.
- أن العمليات الفيزيائية والكيميائية التي كان يقوم بها الصيادلة لتحضير المواد الكيميائية، كعقاقير كانت تؤدي غالبًا إلى حصول مزيج من مركبات هي أكاسيد وأملاح لمعادن، ولا نستطيع أن نعرف الاسم الكيميائي لهذا المزيج والمركب ما لم نتابع بدقة طريقة العمل ونعرف بالضبط الاسم الصحيح للفلز المستعمل كمادة أولية. وقد انتبه الزهراوي إلى ذلك عند تحضير خلات الحديد، فقال: (خذ ما شئت من برادة الحديد التي لا يخالطها شيء البتة؛ لأنه إن خالطها شيء من النحاس أو الرصاص أو الزجاج وسقيتها أحدًا قتلته).
- انفراد الزهراوي بالكلام عن بعض الطرق الصناعية في استحصال المعادن وأكاسيدها وأملاحها، وأجاد في وصف الأجهزة والأدوات المستعملة في هذا السبيل.
- ذكر الزهراوي أوصافًا لبعض الفلزات والأملاح مع طريقة تحضيرها، وكان فيها مبدعًا.
أما الجزء الخاص بتدبير العقاقير النباتية من هذه المقالة ففي الفصل الثالث من هذا الجزء تتحدث عن تحضير العقاقير النباتية، وجمع الزهراوي في هذا الفصل الطرق المستعملة في تحضير العقاقير النباتية بصورة عامة قبل استعمالها، وهي طرق اقتبس أكثرها من مؤلفات غيره، ولكن من بينها أيضًا ما هو من مبتكراته، وما يعود إليه الفضل في إبداعه في هذا المجال، ومنها:
إحراق أغصان النباتات للحصول على الأرمدة
– تصفية الصمغ العربي، ترتيب الكراويا والأملاح ونقع الكمون في الخل، تدبير الأفيون وغيرها.
أما الباب الثالث فهو في تدبير الأدوية الحيوانية، وشرح في هذا الجزء طريقة تحضير كل عقار حيواني مبينًا أهميته وفائدته الدوائية([12]).
ومن عناوين مقالاته الثلاثين في كتابه التصريف يتبين بوضوح اهتمامه بالصيدلة وتعمقه فيها؛ فالمقالة الأولى والثانية في الطب والعلاج وتركيب الأدوية، والمقالة الثلاثون في الجراحة، أما باقى المقالات فمعظمها في الأدوية المركبة في علاج مختلف الأمراض، وكذلك في الأشكال الصيدلية وطرق تحضيرها وتعاطيها وجرعاتها، وأهم هذه المقالات المقالة التاسعة والعشرون، وهي في تسمية العقاقير باختلاف اللغات؛ يونانية وسريانية وعربية وفارسية، وبدلها، وأعمارها، وأعمار العقاقير المركبة وغيرها، وشرح الأسماء المركبة الواقعة في كتب الطب والأكيال والأوزان([13]).
إن كتاب التصريف في مجال الأدوية والصيدلة يُعَدّ مرجعًا هامًّا لاحتوائه على معلومات وافية عن الأدوية المفردة والنباتات، وأهم مواطنها وأماكن نموها وموعد جمعها وفصوله، وكيفية الحصول على الأجزاء الهامة منها، وطرق حفظها وتخزينها، ونوع المعادن الملائمة لكل منها([14]).
لقد استطاع الزهراوي، وهو الجراح البارع والصيدلي الماهر أن يدمج هذين الشقين معًا في علاجات الكسور، حتى أطلق عليه لقب (الجراح الصيدلي) وذلك في حالات الكسور وحالات تمزق الأربطة وكسور العمود الفقري بشكل خاص([15]).
إن الزهراوي هو أول رائد لفكرة الطباعة في العالم، وقد أورد الزهراوي فكرته هذه في المقالة الثامنة والعشرين من كتابة التصريف؛ حيث وصف لأول مرة في تاريخ الطب والصيدلة كيفية صنع الحبوب (أقراص الدواء) وطريقة صنع القالب الذي تصب فيه هذه الأقراص أو تحضر، مع طبع أسمائها عليها في الوقت نفسه باستخدام لوح من الأبنوس أو العاج مشقوق نصفين طولًا، ويحضر في كل وجه قدر غلظ نصف قرص، وينقش على قعر أحد الوجهين اسم القرص المراد صنعه، مطبوعًا بشكل معكوس، فيكون النقش صحيحًا عند خروج الأقراص من قالبها، وذلك منعًا للغش في الأدوية، وإخضاعها للرقابة الطبية([16])، ونسخة باريس من مخطوط التصريف أظهرت شكل هذه القوالب، ولم يقتصر الزهراوي على تحضير الأدوية وكذلك العقاقير من النباتات، والعناية بالاحتفاظ بالأجزاء المجففة منها، بل وعين معدن الأوعية التى توافق كل واحد منها، وقد اهتم بتبييض الخل وغسل الزيوت، ووصف الجهاز المستخدم في تقطير المياه العطرية، وكثير من المواد الأخرى المستعملة في تحضير الأدوية، وشرح كثيرًا من المصطلحات الهامة من الناحية الفنية([17]).
لقد أثر الزهراوي في ازدهار وتقدم الصيدلة العربية تأثيرًا عظيمًا، حتى إن أشهر علماء الصيدلة والنبات قد اقتبسوا من مؤلفاته الكثير منها، ومنهم ابن البيطار الذي أخذ عن الزهراوي صنع الخبز المركب من أجود أنواع القمح، والذي يخمر ويكون خفيفًا خاليًا من الشوائب، وكذلك أخذ عنه ابن العوام الذي ذكر أنه ليس هناك أحسن من طريقة الزهراوي في استخراج ماء الورد، كما نقل عنه ابن البيطار في كتابه المفردات كيفية استخراج الزيت([18]).
لقد أظهر كتاب التصريف عبقرية الزهراوي العظيمة في مجال آخر غير الجراحة، وهو مجال الصيدلة؛ حيث أسهمت المقالات الواردة في الكتاب والمتعلقة بالصيدلة في ازدهار وتقدم علم الصيدلة عند العرب وفي العالم، وهو ما تنبه إليه العديد من الباحثين في الآونة الأخيرة، وبدأوا في إلقاء الضوء على الزهراوي الصيدلي، ذلك الجانب الذي أهمله الكثيرون ولم تر أعينهم في الزهراوي سوى الطبيب الجراح، حتى إن هذه الصفة قد طغت على الزهراوي الصيدلي، بل وطمستها تمامًا، ومن يتعمَّق في دارسة كتاب التصريف يتأكد بما لا يدع مجالًا للشك في عبقرية الزهراوي في مجال الصيدلة، فهو أمير للجراحة والصيدلة، وليس أميرًا للجراحة فقط.