كان العرب قبل الإسلام يعرفون شيئًا عن العلاج والوقاية من الأمراض. إما عملًا بالاستقراء وإما اقتباسًا ممن كانوا يخالطونهم؛ لأن العرب لم يكونوا محصورين في شبه جزيرة العرب قبل الإسلام، ولكنهم اتصلوا بالفينيقيين وسكان آسيا الصغرى والجزيرة والبابليين والهنود والفرس والسريان.
كما هاجر اليهود إلى الجزيرة من أقطار مختلفة، وكانوا على صلة بالعلوم، فتعلم العرب عنهم الطب([1]).
ولقد ساعدت البيئة العربية الصافية ذات الأعشاب الطبية، وبعض المناطق الرعوية في شبه الجزيرة العربية على إقامة الطب عند العرب على أساس تجربة بعض النباتات والأعشاب في العلاج، ولهذا فقد كان أبرز خصائص الطب عند العرب قبل ظهور الإسلام اهتمامه بالتجربة، وبخاصة تجربة هذه الأعشاب والنباتات الصحراوية، واستخدامها في العلاج لبعض أمراض البيئة الصحراوية بشبه الجزيرة العربية([2]).
وفي هذا الصدد ذكر الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه (أثر العرب في الحضارة الأوربية): «يبدو لنا أن اشتغال العرب الطويل برعي الأغنام قد باعد بينهم وبين طب التجارب العلمية؛ لأنهم راقبوا الحمل والولادة والنمو، وما يتمثل به من الأطوار الحيوية، وشرَّحوا الأجسام، وعرفوا مواقع الأعضاء منها، وعرفوا عمل هذه الأعضاء في بنية الحيوان نحوًا من المعرفة السليمة، فاقتربوا من الإصابة في تعليل المرض والشفاء»([3]).
ولقد عرف العرب في جاهليتهم صنفين من الطب: طب هيَّأَتْه لهم معتقداتهم الدينية فنهض به الكهان والعرافون، واستخدموا فيه الرُّقَى والتعاويذ، وذبح الذبائح حول الكعبة، والتوجه بالدعاء إلى الآلهة التماسًا للشفاء، كما أنهم توصَّلُوا مع هذا إلى طب هدتهم إليه خبرتهم اليومية، واستعانوا بالعقاقير، وكان أكثرها مأخوذًا من النبات ويؤخذ شرابًا، وكان العسل كثيرًا ما يستخدم في علاج الأمراض الباطينة عند العرب([4]).
وكان عرب الجاهلية بدورهم على دِرَاية بفنِّ التَّدَاوي، من خلال معرفتهم واستعانتهم بما في بيئتهم الصحراوية من النباتات والأعشاب، بالإضافة إلى تلك التي كانوا يحصلون عليها عن طريق قوافلهم التجارية التي كانت تجوب العالم المتحضر آنذاك([5]).
وكان من عادات العرب مداواة العضو بالعضو، فمن كان مريضًا بالكبد وصفوا له أكل الكبد، ومن كان مريضًا بالقلب وصفوا له أن يتغذَّى بقلب شاه، من ذلك ما جاء على لسان قيس مجنون ليلى:
وشاة بلا قلب يداوونني بها |
كيف يداوي القلب من لا له قلب |
ومن أقوال العرب المأثورة التي صارت مبادئ لحفز الصحة العامة: نعم الإدام الجوع – والمعدة بيت الداء – والحمية رأس الدواء – وأن آخر الدواء الكي – والجوع للمعدة والأمعاء من الأدواء([6]).
وكانت أدوية العرب في الجاهلية تؤخذ من أوراق النباتات والأشجار، مضافًا إليها بعض القرون والعظام المسحوقة أو الأملاح والبخور([7])، وكان عرب الجاهلية يعالجون حول العين بإدامة النظر إلى حجر الرحى في دورانه، أما علاج الاستسقاء فكانوا يحفرون للمريض حفرة في الأرض يوقدون فيها النار من الصباح إلى المساء، وفي المساء يخرجون النار منها، ويجعلون فيها ترابًا، ثم يجردون المريض من ثيابه، ويرقد في الحفرة، ويغطون جسده بالتراب. وكان الاعتقاد السائد عند العرب في الجاهلية أن الأمراض على اختلاف أنواعها يَرْجِع سببها إلى نقص بعض مواد مجهولة تفرزها مختلف الأعضاء([8]).
ومن أشهر أطباء العرب قبل الإسلام الحارث بن كلدة الثقفي الذي تَرَكَ لنا العديد من الأقوال المأثورة في الطب والصيدلة، ولقد أشار ابن أبي أصيبعة في كتابه (طبقات الأطباء) إلى الحديث الذي دار بين الحارث وبين كسرى أنو شروان عندما سأله كسرى عن الدواء، قال: ما لَزِمَتْك الصحة فاجتنبه، فإن هاج داء فاحسمه بما يردعه قبل استحكامه، فإن البدن بمنزلة الأرض إن أصلحتها عمرت، وإن تركتها خربت.
ومن كلام الحارث أيضًا: دافع بالدواء ما وجدت مدفعًا، ولا تشربه إلا من ضرورة، فإنه لا يصلح شيئًا إلا أفسد مثله([9]).
وعلى الرغم من معرفة العرب قبل الإسلام لبعض أنواع الأدوية والعلاج، إلا أنهم لم يستعملوا العقاقير والأدوية على نطاق واسع لعدة أسباب، منها:
أولًا: لطبيعة بلادهم الحارة والجافة مما لا يساعد على انتشار كثيرٍ مِن الأمراض الجرثومية والفطرية.
ثانيًا: لطبيعة غذائهم الذي كان قليل الكمية غالبًا، محدود الأنواع، لا يتجاوز لحوم الإبل وألبانها مع التمر، وقليل من الحبوب والخضروات البيئية.
ثالثًا: فقرهم الذي لم يسمح لهم باستهلاك العقاقير الغالية الثمن التي كانوا يتولون نقلها بقوافلهم.
رابعًا: انتشار الأمية بينهم على نطاق واسع، وخاصة في القبائل الضاربة في الصحراء([10])