أن صناعة الطب لم تكن بمستنكرة عند جماهير العرب في الجاهلية، رعاية للصحة وعلاجًا للأمراض، فلما اعتنق العرب الإسلام لم يجدوا في الاشتغال بالطب خطرًا يهدد عقيدتهم، وأبطل الإسلام الكهانة والعرافة؛ إذ لا كهانة بعد النبوة، ولم يكل الإسلام صناعة الطب إلى رجال الدين، فبطَل الطب الذي يمارسه الكهان، وَتَمَهَّد الطريق إلى طِبّ أكثر وعيًا، وامتدح القرآن الكريم الحكمة والطب، وأوصى النبى ﷺ بطب الابدان، وحث على الاشتغال به لمن استطاع إليه سبيلًا، فقال: «تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ، سُبْحَانَهُ، لَمْ يَضَعْ دَاءً، إِلَّا وَضَعَ مَعَهُ شِفَاءً، إِلَّا الْهَرَمَ»، وورد في حديث نبوي أن العلم علمان: علم الأديان، وعلم الأبدان([1]).

وورد في القرآن الكريم والسنة النبوية الكثير من الإشارات التي ساعدت على الاتجاه إلى العمل على ازدهار صناعة الطب والصيدلة، كان لهذه الإشارات القرآنية والنبوية العَامِل الأكبر في ازدهار الطب والصيدلة عند المسلمين، وسيأتي ذكر ذلك بإسهاب عند الحديث عن الصيدلة في العصر العباسي عصر ازدهار الحضارة العربية.

الطب والصيدلة في العصر الأموي

ظل الطب العربي بملامحه البسيطة المعتمدة على الأعشاب والنباتات الطبية والكي والحجامة حتى مطلع العصر الأموي، وفي العصر الأموي عرف العرب مدرسة الإسكندرية القديمة، وعرفوا المؤلفات اليونانية في الطب ونقلوها إلى السريانية ثم إلى العربية. ويقال: إن أول نقل في الإسلام كان على يد خالد بن يزيد، والحقيقة أنه مع بدايات الدولة الأموية بدأ الطب العربي يتعرَّف على المؤلفات الإغريقية وغيرها([2]). وكان لمعاوية بن أبي سفيان طبيبان نصرانيان: أولهما: أبو الحكم، وكان عالمًا بأنواع العلاج والأدوية، وله أعمال مذكورة ووصفات مشهورة، وكان يَسْتَطْبِبُه معاوية بن أبي سفيان، ويعتمد عليه في تركيبات أدوية لأغراض قصدها منه([3]). وأما الطبيب الثاني فهو ابن أثال، وكان طبيبًا متقدمًا من الأطباء المميزين في دمشق، اصطفاه معاوية لنفسه، فكان معه ليلًا ونهارًا، وكان ابن أثال خبيرًا بالأدوية المفردة والمركبة وقواها، ومنها سموم قواتل.

ومن أبرز أطباء وصيادلة العصر الأموي تياذوق الذي أشار ابن أبي أصبيعة إلى أنه كان في أول دولة بني أمية ومشهورًا عندهم بالطب، وصحب الحجاج بن يوسف الثقفي، وله الكثير من المؤلفات، أشهرها: كناش كبير ألفه لابنه، وكتاب أبدال الأدوية؛ أي: مخض الأدوية، وهو مزجها بالماء وتحريكها، وتكلم فيه عن دق الأدوية وإذابتها وشيء من تفسير أسماء الأدوية.

كذلك كان هناك الطبيبة زينب، طبيبة بني أود، وكانت عارفة بالأعمال الطبية، خبيرة بالعلاج ومداواة آلام العين([4]).

وهكذا نرى أن الطب والصيدلة العربية في العصر الأموي كانا كيانًا واحدًا، فالطبيب هو الصيدلي الذي يُحَضِّر الأدوية بنفسه، بل ويؤلف فيها الكتب المختلفة، كما ظهر أطباء كانوا على دراية بمؤلفات الإغريق والسريان في مجال الطب والصيدلة، وهو ما مهَّد الطريق أمام الطفرة الكبرى في مجال الطب والصيدلة في العصر العباسي والعصور التالية.