لقد ورد التعريف اللغوي لكلمة صيدنة وصيدناني في كتاب البيروني (الصيدلة)، وقد عربت هذه الكلمة من لفظة (جندل) الهندية، وأشار البيروني إلى ارتباط هذه الكلمة (بالصندل)، وهو نبات مُولَعٌ به أهل الهند ولوعًا يَفُوقُ ولوعهم بغيره من أنواع الطيب والعطور، ويسمونه (جندن) أو (جندل)، وكان باعة الصندل من العطارين الذين يجسدون مزج الأدوية والعطور، ويقال لمفردهم (جندناني)، وقد اعتاد العرب قلب حرف الجيم الأعجمية إلى حرف الصاد، ورد أمثلة عديدة لذلك، وهكذا أصبحت لفظه الجندنة صيدنة، ويُطْلَق على من يمْتَهن هذه المهنة (صندناني)، وإن كان البيروني نفسه يفضل كلمة الصيدلاني على الصيدناني، حيث ذكر في الصفحة الرابعة من مخطوطه (أن الصيدنة أعرف من الصيدلة، والصيدلاني أعرف من الصيدناني، وهو المحترف بجمع الأدوية) وهكذا نجد أن العرب لم تكن تفرد للصيدلي اسمًا أو نسبة أو لقبًا، وكأنهم كانوا يزهدون في الصندل، فنقلوا هذا الاسم المعرب من مزاولي العطر إلى مزاولي الأدوية([1]).
وجاء في المعجم الوجيز حرف الصاد، أن صيدلي: أي احترف الصيدلة، والصيدلاني هو مَنْ يُعِدّ الأدوية ويبيعها، وهو العالم بخواصِّ الأدوية، والصيدلة هي حجارة الفضة، وشُبِّهَ بها حجارة العقاقير([2]).
لقد شهد فن الصيدلة وتحضر الأدوية تطورًا سريعًا في العصر الإسلامي، وذلك بفضل ما سبق ذكره من عوامل عديدة ساعدتهم على ذلك، وبعد أن ترجم المسلمون علوم السابقين عليهم في مجال الصيدلة واستوعبوها بدأت تظهر شخصية الصيدلاني المسلم في العصر العباسي، وهو العصر الذي شهد تطور وازدهار الصيدلة العربية، وشهد كذلك بروز العديد من الأطباء والصيادلة الذين كانت مؤلفاتهم عاملًا مهمًّا من عوامل تقدم وتطوّر الصيدلة العربية، ففي العصر العباسي حدث الفصل بين مهنة الطب والصيدلة، وبرَزَ دور الصيدلي ومحضِّر الدواء بشكل كبير، كما ظهر المتخصصون في هذه المهنة.
فقد أشار ابن أبي أصيبعة في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» أن عيسى المعروف بأبي قريش كان صيدلانيًّا يجلس على موضع نحو باب قصر الخليفة ببغداد([3]).
ومن ذلك نعرف أن أبا عيسى هذا هو أول من حمل لقب صيدلاني في العصر الإسلامي.
عصر ازدهار وتقدم الصيدلة العربية
لقد سبق وأن أشرت إلى العوامل التي ساعدت على تقدم وازدهار الصيدلة العربية؛ حيث لم يقف علماء العرب والمسلمين في هذا المجال عند حَدِّ النقل والترجمة، بل إنهم انكبُّوا على دراسة الأدوية المفردة والمركبة وتعمَّقُوا في دراستها، واستخدموا عقاقير جديدة لم تكن معروفة من قَبْلُ لدى القدماء، واستخدموها في تطبيب المرضي؛ كالسنامكة والكافور والصندل والرواند والمسك والتمر هندي وجوز هندي وجوز الطيب والحنظل، وغيرها([4]).
وظهر لعلماء المسلمين في ذلك الوقت بعض المؤلفات الهامة في مجال الطب، أشهرها كتاب علي بن سهل الطبري الذي حمل اسم «فردوس الحكمة»، وضمنه الكثير من المعلومات عن الأدوية المفردة والمركبة والترياقات والأقراص والجوارشانات والربوب والأشربة والأدهان والمرهمات([5])، كما ظهر الحاوي في الطب للرازي، والذي تحدث فيه عن قوى الأدوية بكل منها([6])، وظهر أيضًا الكتاب الملكي أو كامل الصناعة الطبية لعلي بن العباس المجوسي، الذي تعرض فيه لطرق مداواة الأمراض بالأدوية المفردة والمركبة، وتكَلَّمَ عن الطرق التي يُسْتَدَلّ بها على قوة الدواء، والقوانين والدساتير التي يعول عليها في أوزان الأدوية المركبة، كما أشار إلى طرق إعداد الأدوية وتحضيرها على اختلاف أشكالها.
كذلك من أشهر المؤلفات الطبية التي ضمت جزءًا خاصًّا بالعقاقير والأدوية كتاب «التصريف لمن عجز عن التأليف» لأبي القاسم خلف بن عباس الزهراوي الذي تضمن الكثير من المعلومات عن الأدوية والعقاقير وإعدادها وتحضيرها.
أما أشهر المؤلفات العربية فهو كتاب القانون في الطب لابن سينا الذي تضمن قسمًا خاصًّا عن الأدوية المفردة والأقراباذين([7]).
إنَّ كُلَّ ما سبق من مؤلفات عربية، ورَغْم كونها تضم معلومات غزيرة في مجال الصيدلة، إلا أنها كانت في المقام الأول مؤلفات طبية في مجالات وفروع الطب المختلفة ضمنها مؤلِّفُوها جزءًا من الصيدلة، أما الطفرة ونقطة التحوُّل في مجال الصيدلة العربية فقد شهدها القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، والذي شهد مولد أول أقراباذين عربي خالص ألفه سابور بن سهل وهو (الأقراباذين الكبير)، وهو الأقراباذين الذي ظل معمولًا به في جميع دكاكين الصيدلة على مدى ثلاثة قرون، ثم توالى ظهور المؤلفات الخاصة بعلم الصيدلة والعقاقير، فوضع الكندي كتابه «الأدوية المركبة»([8])، ثم جاء البيروني الذي وضع كتابه المهم «الصيدنة في الطب» والذي أشار فيه إلى الأدوية ومواطنها وجرعاتها وطرق تخزينها، ورتبها على حروف المعجم([9]).
كذلك ظهرت العديد من المؤلفات في بلاد المغرب لابن الجزار وابن جلجل وابن وافد اللخمي وغيرهم.
وشهد القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي ظهور أمين الدولة ابن التلميذ الذي وضع أقراباذينه المعروف، والذي حاز شهرة واسعة بين صيادلة المسلمين، وحل محل أقراباذين القرن 3هـ/ 9م لسابور بن سهل([10]).
وظهر أيضًا في تلك الفترة الغافقي الذي ألف كتابه الشهير «جامع الأدوية المفردة».
وفي القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادى، وبالتحديد في النصف الأول منه وضع الشيخ السديد داود بن أبي البيان أقراباذينه المعروف (بالدستور البيمارستاني) للأدوية المستعملة في بيمارستانات مصر والشام والعراق([11])، وفي نفس الفترة ظهر رشيد الدين الصوري الذي ألف كتابه (الأدوية المفردة)[12]
أما أشهر وأبرز صيادلة القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي فهو ابن البيطار المالقي وكتابه المهم «الجامع لمفردات الأدوية والأغذية» والذي ضمنه شرحًا وافيًا لألف وأربعمائة دواء ما بين معدني ونباتي وحيواني، رتبها على حروف المعجم، منها ثلاثمائة عقار لم يسبقه إليها أحد([13]).
وفي منتصف القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي ظهر أبو المنى داود أبو النضر المعروف بكوهين العطار، والذي قدم للصيادلة في عام 608هـ 1260م كتابًا مهما هو «النافعة للأبدان»([14]).
أما القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي فقد شهد ظهور عالم من أشهر علماء الصيدلة العربية، وهو الشيخ الضرير داود الأنطاكي صاحب الموسوعة الشهيرة: «تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب» المشهور باسم التذكرة أو: تذكرة داود([15]). وهو من المؤلفات المهمة التي كانت بمثابة الختام والنهاية لعصر ازدهار وتقدُّم الصيدلة العربية، وآخر المؤلفات العربية المهمة في هذا المجال، ويتضمن الكتاب عرضًا لألف وسبعمائة عقار من الأدوية المفردة والمركبة، والعديد من الوصفات والأكحال وأسماء العقاقير([16]).
وبعد، فهذا عرض موجز للمراحل التاريخية لتطور الصيدلة العربية، تعرضت فيه لأشهر المؤلفات العربية في هذا المجال، والتي كانت بمثابة الأساس المتين لعلم الصيدلة في العصر الحديث.
والملفت للنظر أن جُلَّ التطور والتقدم في مجال الصيدلة حدث في العصر العباسي، عصر ازدهار الحضارة العربية، وكانت بغداد هي المدينة التي حَمَلَتْ لِوَاء ازْدِهَار وتقدُّم علم الصيدلة، ففيها ظَهَرَ أول مَنْ تَلَقَّبَ بالصيدلاني، وفيها شيدت أول صيدلية في العالم، وفيها ظَهَرَ أشهر وأهَمّ الأطباء والصيادلة والذين كان لمؤلفاتهم الفضل الأكبر في تطور وتقدُّم هذا العلم.
وبعد أن تعرَّفْنَا على المراحل التاريخية التي مَرَّ بها تطور الصيدلة العربية، لا بد من الحديث عن الأدوية عند العرب: ماهياتها، وطُرق إعدادها وتحضيرها، والقواعد والنظم والأسس المتبعة في هذا المجال.
والبداية تكون بالإشارة إلى معنى الأدوية عند العرب، فقد ذكر سهل بن ربن الطبري في كتابه «فردوس الحكمة» أن كل شيء يتربى به فهو ما غذي به فهو حلو، وكل شيء يغير الطبيعة فهو دواء.
أما البيروني في كتابه «الصيدنة في الطب» فذكر أن جميع ما يتناول بقصد أو بجهل، فمنقسم في أول الأمر إلى أطعمة وسموم تتوسطها الأدوية([17]).
كذلك رأيت قبل أن أتناول مراحل إعداد وتحضير الأدوية في الصيدلة العربية، أن أذكر المبادئ التي عليها فعل الأدوية عند المسلمين، فقد كان صيادلة المسلمين يصنفون الأدوية وفقًا لأثرها في العلاج، ما بين مسخن ومبرد، ومرطب ومجفف، وقابض ومسهل([18])، كما كانوا يعتقدون بأن قوى الأدوية وتأثيرها يتوقف على طبائع الأبدان واختلاف حالاتها في الصحة والمرض، وطبائع الأمراض واختلافها من شدة وضعف، وما يتبعها من أعراض، بالإضافة إلى أمزجة الأبدان وأوقات السنة، وحالة الجو والبلد الذى يسكنه المريض؛ بسبب اعتناقهم نظرية أبقراط الخاصة بأن الكون يتكون من عناصر أربعة، هي: الماء، والهواء، والتراب، والنار، وهذه بدورها لها طبائع أربعة هي: البرودة، والحرارة، واليبوسة، والرطوبة، ويقابلها في الجسم البشري أخلاط أربعة هي: الدم الذي يأتي من القلب، والبلغم الذي يأتي من الدماغ، والصفراء التي يفرزها الكبد، والسوداء التي تأتي من الطحال والمعدة، وهذه الأخلاط الأربعة عبارة عن أجسام سيالة يستحيل إليها الغذاء، لذا فالدم له خواص الهواء؛ أي: حار رطب، والبلغم له صفات الماء؛ أي: بارد رطب، والصفراء لها خواص النار؛ أي: حارة جافة، والسوداء لها خاصية التراب؛ أي: باردة يابسة([19]).
وهي عادة تكون متوازنة في الجسم البشري، فإذا حدث خلل في واحد منها أو أكثر نتج المرض، عندئذ يجب إعادة التوازن إليها عن طريق الأدوية والأقراباذين التى تعالج هذا الخلل([20]).