العـم حمـزة رجـل علـى أعتـاب الـستين، أُحيـل إلـى المعـاش بعـد أربعـين عامًـا قـضاها فـي العمـل، كـان فيهـا مثـالاً للعامـل المخلـص فـي عملـه الأمـين عليـه ،الحريص على إتقانه بصورة تُـرْضِي ربه، كان زملاؤه فـي العمـل يحِبوَنَـهُ ويـرون فيـه الأخ الأكبر والقدوة والمثل.

وكان العم حمزة رقيق القلب، يحمل الحب والود لكل النـاس، ورغـم وصـوله إلـى سـن الـستين إلا أنـه كـان شـعلة نـشاط، لـه عزيمـة لا تلـين، وعنـدما أحيـل للتقاعد أصابه الحزن، وبـات مهموًمًـا بمـا يحملـه الغـد لـه ولأسـرته. فهـو يـرى أنـه مـا زال قـادرًا علـى العطـاء والعمـل، وأنـه مـن الظلـم أن يتقاعـد، ومـا زال لديـه الكثير ليؤديه، ولكنها سنة الحياة وقانونها. 

تَـقَبـلَ العـم حمـزة الأمـر وسـلم أمـره ﷲ، وبـدأ أيامـه الأولـى فـي حيـاة مـا بعـد التقاعـد، والحـق أن هـذه الأيـام كانـت شـديدة الـصعوبة عليـه، فـاليوم أصـبحت ساعاته طويلة ثقيلة الخطـى، تمـر بـبطء شـديد، ومـرت الأيـام، وكـل يـوم يزيـد مـن حزن العم حمزة، فهو لا يعرف أيـن يـذهب وكيـف يقـضي يومـه، وكيـف تمـر هـذهالساعات الطويلة التي كانت تمضي سريعًا عند ما كان يعمل!

العم حمزة ليس ككل الرجال، فلم يكن يقتل الوَقْتَ بالجلوس على المقـاهي كما لم يكن له أصدقاء يمضي الوقت معهم.

لم يتحَمل العم حمزة أن تمضي أيامه على هذا الحال، فكل يوم يشبه سابقه لـيس هنـاك جديـد، وفجـأة أصـابه مـرض أقعـده عـن الحركـة، فـلازم البيـتَ لا يُـغادِرُه، فازدَاد الأمر صعوبة عليـه، وحاصَـرَْتهُ الأحـزان والآلام، وزارَُه الطبيـب تلـو الطبيب، وكلهم يؤكدون على أن العم حمزة ليس لديـه مـرض عـضوي، وإنمـا كـل ما يعانيـه إرهـاق نفـسي ربمـا نتيجـة إحالتـه للتقاعـد وُبُـعْـده عـن العمـل الـذي أحبـه وأفنى فيه كل عمره.

ولم يجد نفعًا ما كتبـه الأطبـاء مـن الأدويـة، فاتجـه العـم حمـزة إلـى اﷲ يـشكو إليه حاله، ويدعوه أن يخفف عنه ما هو فيه مـن بـلاء، ونـذر إن شَـفَاهُ اﷲ ووقـف مَرة أخرى على قدميه فسيكون في خدمة بيت من بيـوت اﷲ، ولـن يتركـه إلـى أن يتوفاه ا، واستجاب اﷲ لدعاء العـم حمـزة، وشُـفِيَ مـن مرضـه، فحمـد اﷲ علـىنعمائه وجزيل عطائه.

وفى يـوم مـن الأيـام قـررَ أهـالي القريـة بنـاء مـسجد فـي قطعـة أرض علـى حافـة النهـر، وعنـدما سـمع العـم حمـزة بـالأمر فـرح كثيـرًا، ووجـد أمامـه الفرصـة سـانحة ليوفي بنـذره وعهـده الـذي كـان قـد قطعـه علـى نفـسه، بـأن يكـون فـي خدمـة هـذا المسجد، وأصر العم حمزة أن يكون أول المتطـوعين للعمـل فـي بنـاء المـسجد. وتغير الحـال، وسـبحان مغيـر الأحـوال! فأصـبح العـم حمـزة يـستيقظ فـي الـصباح البـاكر ليكـون أول الحاضـرين مـن العـاملين، وكـان يعمـل بهمـة ونـشاط يحـسده عليهـا مـن يعملـون فـي المـسجد مـن معـشر الـشباب، ولـم يكتـف العـم حمـزة بالعمل متطوعًا، بل كان        يتكفل بإطعام العمال وتوفير ما يحتاجونه من ماء. وبعـد شـهور قليلـة ارتفـع البنـاء وأوشـك العمـال علـى الانتهـاء والعـم حمـزة فـي سـعادة بالغة؛ لأنه شارك في بنـاء بيـت مـن بيـوت اﷲ، وبعـد إتمـام البنـاء افتـتح المـسجد

للـصلاة وقـرر أهـالي القريـة وبالإجمـاع أن يكـون العـم حمـزة هـو المـسئول عـنالمسجد.

وأعطوه مفاتيح المسجد ليبدأ رحلة من العمل في خدمة بيت اﷲ.

كان يوم العم حمزة مع المسجد يبدأ من فجر كل يوم؛ حيث يخرج من بيته فـي بـرد الـشتاء القـارس الـذي يخـشاه شـاب صـحيح الجـسم قـويّ البنيـة، يخـرج العم حمزة في ظلام الليل لا يزعجه نباح الكلاب المنتـشرة فـي القريـة، متـسلحًا بـذكر اﷲ طـول الطريـق، إلـى أن يـصل إلـى المـسجد، فيفـتح أبوابـه ثـم يفـتح المذياع ليُسمع أهل القرية قرآن فجر يوم جديد من أيامهم. ويجلس العم حمـزة بجـوار المـذياع ذاكـرًا ﷲ حتـى يحـين وقـت الأذان فيرفـع أذان الفجـر بـصوته النـدِي الجميـل، وكانـت أجمـل لحظـات حياتـه وهـو يرفـع الأذان، وبعـد أن يفـرغ المـصلون مـن أداء الـصلاة، وينـصرفوا مـن المـسجد يُـغْلِـق العـم حمـزة الأبـواب ويعود إلى بيته ليستريح قليلاً.

وقبل صلاة الظهر ينطلق العم حمزة إلى المسجد فيـشمر عـن سـاعديه ليقـومبتنظيـف المـسجد ونثـر الميـاه أمامـه، حتـى لا تثيـر الريـاح الأتربـة فتـدخل إلـى المسجد فتضايق المصلين.

كـان العـم حمـزة يفعـل كـل ذلـك بحمـاس وهمـة ونـشاط كأنـه فـي العـشرين ،وكـأن اقـد أعطـاه صـحة الـشباب وعـافيتهم حتـى يـستمر فـي خدمـة بيـت اﷲ ،وهكـذا كـان يفعـل العـم حمـزة فـي كـل وقـت مـن أوقـات الـصلاة يحـضر إلـى المسجد قبل المصلين وينصرف بعدهم.

غيـر أن العـم حمـزة لـم يكتـف بـالتطوع لخدمـة المـسجد، بـل كـان يفكـر فـي عمـل يـسعد بـه أهـل القريـة، وهـداه تفكيـره إلـى اسـتغلال قطعـة أرض بجـوار المسجد تطل مباشرة على النهر،  فرأى أن يحولها إلى حديقـة للمـسجد، وفعـلاً بـدأ عملـه بـأن أحـضر الكثيـر مـن الأشـجار، خاصـة تلـك التـي ورد ذكرهـا فـي القـرآن الكـريم، فغـرس فـي حديقـة المـسجد أشـجار التـين والزيتـون والرمـان وأشـجار العنـب والنخيـل وغيرهـا مـن الريـاحين. وتعهـد هـذه الأشـجار بالرعايـة والاهتمـام حتـى أزهـرت هـذه الأشـجار وأثمـرت وأصـبحت قطعـة الأرض بـستاناجميلاً يخرج أطيب الثمار، وينتشر عبير زهورها ورياحينها ليعطر كل المكان.

وكـان أهـالي القريـة يتـابعون عمـل العـم حمـزة فـي الحديقـة، ولـم يكـن يتـصور أحـد مـنهم أن الحديقـة سـتكون بهـذا الجمـال، وأنهـا ستـصبح يوًمًـا روضـة مـن رياض الجنان، فلما رأوا ما صنعه العم حمزة بعمله وصبره كانوا يدعون لـه بطـول العمر وحسن الختام.

وأصبحت حديقة المسجد هي المكان الذي يقضي فيه المصلون وقتهم بعد الصلاة يتمتعون بمنظر الأشـجار ويقطفـون منهـا أطيـب الثمـار، وحـولهم الأطفـال يلعبون ويمرحون والعم حمزة في سعادة وسرور.

وعنـدما يقتـرب شـهر رمـضان كـان العـم حمـزة يـزداد نـشاطًا وحماسًـا، ويعمـل بكل قوة على إعداد المسجد لاسـتقبال الـشهر الكـريم، فيعلـق الرايـات ويـضيء الأنـوار، وينظـف واجهـات المـسجد والجـدران، فيـدرك أهـل القريـة أن رمـضان على الأبواب، وخلال أيام شهر رمضان يـصبح العـم حمـزة علـى جانـب كبيـر مـن

الحيوي ـة والنـشاط، فقب ـل أذان المغ ـرب بقلي ـل يجه ـز التم ـر والم ـاء لإفط ـارالمصلين، يفعـل ذلـك وتعلـو وجهـه ابتـسامة رضـا ويْـملأ قلبـه إيمانًـا بـاﷲ، وتغمـره سـعادة بالغـة عنـدما يمتلـئ المـسجد عـن آخـره بالمـصلين، ويـدب فيـه النـشاط والحركة التي لا تهدأ إلا مع بزوغ فجر يوم جديد.

لقد كان شهر رمضان وأيامه ولياليـه هـي أسـعد وأجمـل أيـام العـم حمـزة طـوال العام؛ لأنه يرى المسجد في أبهى زينة وأجمل منظـر، فيحمـد اﷲ تعـالى علـى أن وفقه لخدمة بيته.

وكـان للعـم حمـزة أقـارب فـي قريـة بعيـدة كـان يـذهب لزيـارتهم مـع زوجتـه بـين الحين والحين، وعندما يغيب العم حمزة عـن القريـة والمـسجد تأخـذ أهـل القريـة الحيـرة ويـرددون: مـن للمـسجد بعـد غيـاب العـم حمـزة، وتمـضي الأيـام التـي يقضيها العم حمزة عند أقاربه على أهل القريـة ثقيلـة، والكـل ينتظـر عودتـه بفـارغ الـصبر حتـى يعـود للجـامع بهـاؤه ورونقـه وجمالـه، فالكـل لا يطمـئن علـى الجـامع إلا في وجود العم حمزة.

وعندما يعـود العـم حمـزة مـن رحلتـه القـصيرة بالنـسبة لـه الطويلـة جـدا بالنـسبةلأهالي القرية يستقبله كل أهالي القرية بالحب والترحاب، والكل يفرح بعودته.

لقـد أصـبح وجـود العـم حمـزة فـي خدمـة الجـامع أمـرًا حتميـا لا غنـى عنـه ،وبعودته يعود العم حمزة لسيرته الأولى من الاهتمام بالمـسجد والوقـوف علـى مـا يحتاج إليه، وكلما سأله شخص متطفلاً عن سر اهتمامـه بخدمـة الجـامع وتطوعـه لعمـل ذلـك دون مقابـل والتفـاني فـي عملـه بهـذا الـشكل، يـرد عليـه العـم حمـزة بقولـه: يـا أخـي كنـت علـى وشـك المـوت فأحيـاني اﷲ بخـدمتي لبيتـه، وأعطـاني الـصحة والعافيـة مـن أجـل القيـام بهـذا العمـل، لقـد أدركـت أن الـسعادة الحقيقيـة هـي فـي العطـاء وخيـر العطـاء هـو عطـاؤك وخـدمتك لبيـت مـن بيـوت اﷲ، فكلمـا تفانيـتُ فـي خدمـة بيتـه كلمـا زادنـي قـوة ومنحنـي الـصحة والعافيـة التـي تتـضاءل أمامها صحة الشباب، فالحمد ﷲ الذي هداني لهذا العمل الذي أختم بـه أيـامي وسنواتي في الحياة.

لقد أحب أهل القرية العم حمزة وتعلق به الكبار والصغار، وأصبح مثلاً وقدوة احْتَذَى به أهل القرية فسارع الجميع للتطوع في أعمال الخير، وخدمة المسجد خاصة الأطفال والشباب الذين وجدوا أنهم أولى بهذا العمل من العم حمزة الذي لم يمنعه تقدمه في العمر من العمل والتطوع.