المحتوي
الرحالة البلوى وماريستان القاهرة
وبعد سنوات قلائل زار القاهرة خالد بن عيسى البلوى فى ايام السلطان الناصر محمد بن قلاوون وكان من كبار القضاة بالاندلس ، وصف رحلته باسم “تاج للفرق فى تحلية اهل الشرق” (ت 736هـ / 1336م) قال البلوى “اخبرنى الامام شمس الدين الكركى .. قال :احصيت الجمال الداخلة الى القاهرة بالماء فى كل يوم فبلغت مائتى الف جمل ، ما عدا البغال ،واحصى دكاكين السقائين المعدة للسقى بالقاهرة ، فبلغت ستين الف دكان ما عدا السقائين الذين بالاكواز والاكواب فى الاسواق والطرق .. ولو لم يكن فى القاهرة ما تذكر به الا المارستان وحده ما كفاها ، وهو قصر عظيم من القصور الرائعة حسنا وجمالا واتساعا ، لم يعهد مثله فى قطر من الاقطار احسن بناء ولا ابدع انشاء ولا اكمل انتهاء فى الحسن والجمال .. وقد وصف البلوى مشاهد القاهرة ومسجد السيدة رقية ومقبرة زيد بن الحسين ، والقرافة ، وسود اسماء بعض العلماء الذين قابلهم او قرأ عليهم
لم يكن يذهب احد للسير فى الشوارع الرئيسية بقصد النزهة ، وانما يذهب اليها الناس لقضاء حاجاتهم ، ولا يستطيع واحد ان يسير دون ان يتدافعه ذلك الجمهور المزدحم الصاخب .. اما الشوارع الصغيرة الضيقة فقد اوجز لنا سيمون سيمونيس (الذى كتب وصفا لما شاهده سنة 1322) ، ويقول : نجد فى شوارع المدينة المظلمة الملتوية كثيرا من الاركان والمنحنيات ، وهى مليئة بالغبار وغيره من القمامة وغير مرصوفة وتزدحم شوارعها العامة بجمهور صاخب ولا ينتقل الانسان من شارع الى اخر الا بمشقة كبيرة .
ثم يحدثنا المؤرخ ابن اياس المصرى انه فى مايو سنة 1477 ، صدر امر بتوسيع طوقات القاهرة وازقتها وصدر امر بهدم جميع المبانى التى اقيمت دون طريق شرعية فى الاسواق والشوارع ، مثل كثير من المبانى التى كانت تدر دخلا ، والسقائف والمصاطب ، وكانت عملية توسيع الطرقات ذات نفع للمدينة ولكن كثيرين من الافراد تحملوا خسائر جسيمة لازالة حوانيتهم وممتلكاتهم ، لاسيما تلك التى كانت تقع عند الطرق الرئيسية ، ومع ذلك فقد نفذت الحكومة غايتها ، كما اصلحت ابواب المساجد ، وقامت بتنظيف رخامها وتبييض جدرانها ، واعادت تجميل وجوه الرباع المطلة على الطرق .. فاستعادت المدينة جمالها السابق وغدت رائعة .. وكان ذلك فى نهاية القرن الخامس عشر .
مدينة القاهرة المملوكية فى عيون الرحالة
كانت مدينة القاهرة اكثر حظا من مدينة الفسطاط من حيث كثرة النصوص التى وصف فيها الرحالة دورها وقصورها وشوارعها ودروبها ومساجدها ومدارسها واسواقها .. الخ .
اما الرحالة العبدرى الذى زار القاهرة فى نهاية القرن السابع الهجرى فكان من اكثر الرحالة المغاربة نقدا وربما يرجع ذلك الى بعض ما عاناه اثناء اقامته بمصر ولكن بالرغم من هذا فنقده لم يمنعه من ان يسجل رؤيته بصورة صادقة تتفق مع واقع ما رأه فوصف القاهرة ومبانيها فقال ” خرجت عمارتها عن الحد المعروف وزادات عن القدر المألوف ” ثم شمل وصفه ارض مصر بشكل عام فقال واما ارض مصر ونيليها وعجائبها وخصبها واتساعها فاكثر من ان يحصرها كتاب ويحيط بها حساب وما ظنك بارض هى مسيرة شهر للمجد وطيئة سهلة مغلة ما بها قرية الا وهى تناظر اخرى ولا بستان الا وهو يساوى اخر ولا مدينة الا وهى الى اختها ما تسافر بها الا فى عمارة متصلة وطمأنينية من الارض متصلة والطرق فى الصحراء غاصة بالخلق فكان المسافر بها لم يزل فى مدينة .
والنص السابق سجل صورة واقعية للعمارة والعمران اللذين كانت تنعم بهما مدن مصر والطرق المؤدية اليها ولدينا توصيف اخر لمدينة القاهرة سجله رحالة اخر زارها فى نفس وقت زيارة العبدرى وهو الرحالة التجيبى الذى ضمن وصف مشاهداته لمدينةالقاهرة وابدى اندهاشه زحامه وكثرة اهلها فقال ” وهذه المدينة المحروسة المكلؤة هى الان قاعدة الديار المصرية وأم مدائنها ودار امارتها وكرسى مملكتها وهذه المدينة المعزية كاملة الاسواق عظيمة الترتيب تشمل من المخلوق على عدد لا يحصيهم الا خالقهم ورزاقهم .. ما رأينا قط مدينة اكثر ناسا منه ويخصص التججيبى وصفه اكثر المناطق ازدحاما بمدينة القاهرة وبخاصة المنطقة التى يسلك اليها من باب زويلة فيقول وهو اصغر ابوابها يقصد باب زويلة منه يمر على الممر الاعظم المفضى الى شارع بين القصرين ، ولايزال ازدحام الناس فى هذا الباب ابدا دائما من اول النهار الى اخره ولا يكاد يخلص احد منه الا بمشقة شديدة .
ثم يعرج التجيبى فى وصفه الى ذكر ابواب القاهرة ، ويعدد لنا اسماءها فيقول ” ولهذا المدينة عدة ابواب منها باب زويلة وهو أعظمها ومنه كان دخولنا لهذه المدينة ، ومنها باب المحروق وباب القراطين وباب البرقين وباب النصر وباب الفتوح وباب الشعرية وباب القنطرة وباب البحر وباب الخوخة وباب سعادة وباب الفرج .
ومن النص السابق يتضح ان بعض ابواب القاهرة التى اصبحت مندثرة الان كانت وقت ان زارها التجيبى قائمة او على الاقل كاتن بقاياها قائمة ، مما مكنه من تتبع بعض وتسجيل اسمائها ثم ينتقل التجيبى الى وصف شارع بين القصرين وهو الشارع الرئيسى لمدينة القاهرة فى ذلك الوقت فقال ” وهذا الشارع هو اعظم موضع فى هذه المدينة واشرفه ، وانه من عجائب الدنيا حسنا واتساعا وزخرفة مبان واكثر مدارس عن يمين وشمال وبها روضات الملوك الهائلة المنظر الى غير ذلك من محاسنه التى يعجز عن وصفها وهذا الشارع يمتد من باب زويلة الى باب الفتوح ، وما اعلم له فى الدنيا نظيرا .
اما ابن بطوطة فقد سجل مشاهداته لمدينة القاهرة فى نفس فترة الرحالة التجيبى فوصفها بأنها كثيرة العمارة فقال ” وصلت الى مدينة مصر ، وهى ام البلاد .. المتناهية فى كثرة العمارة المتباهية بالحسن والنظارة ” كما وصف ابن بطوطة احدى عادات اهل القاهرة فى احتفالات اقاموها بسلامة السلطان الملك الناصر محمد من كسر اصابه فى يديه فقال ” فزين كل اهل السوق سوقهم ، وعلقوا بجوانيتهم الحلل والحلى وثياب الحرير ، وبقوا على ذلك اياما ”
اما الرحالة البلوى فقد ضمن وصفه لمدينة القاهرة احصائيات لبعض حوانيتها وبخاصة التى تعمل فى سقاية الماء – فقاء واحصى دكاكين السقائين المعدة للسقى بالقاهرة فبلغت ستين الف دكان ما عدا السائقين الذين بالاكواز والاكواب فى الطريق والاسواق وغيرها
وبالرغم من مغالاة البلوى فى اعداد الحوانيت المعدة للسفر فإن النص يوضح كثرتها هذا الى جانب اعداد الاسبلة التى لم يذكرها البلوى فى نصه ـ، والتى لو اضفناها الى مجموعة الحوانيت لامكننا تصور كمية المياه التى كان يستهلكها اهل القاهرة فى ذلك الوقت .
طوائف الحرفيين وصناعتهم
امدتنا نصوص الرحالة بوصف لطوائف الحرفيين بمدينة الفسطاط والقاهرة واوضحت اهم ما يصنع فيها وما يجلب اليها وما يصدر منها فيقول ابن سعيد عن صناعات مدينة الفسطاط ( والمطابخ التى يصنع فيها الورق المنصورى مخصوص فى الفسطاط دون القاهرة ، ويصنع فيها من الانطاع ( بسط الجلد ) المستحسنة ما يسفر الى الشام وغيرها ، ولها من الشروب ( النسيج الرقيق ) الدمياطى وأنواعها ما اختصت به ، وفيها صناع للقسى كثيرون متقدمون ، ولكن قسى دمشق بها يضرب المثل ويسفر من القاهرة الى الشام ما يكون من انواع الكمرانات الاحزمة وخرائط الجلد ( الحقائب) والسيور وما اشبه ذلك .
وفى النص السابق عدد الرحالة ابن سعيد انواع ما كان يصنع بمدينة الفسطاط اما الرحالة الوزان فيصف طريقة اهل القاهرة فى تفقيس الدواجن فيقول ( ويستعلمون اسلوبا مدهشا لتوليدها ( اى التفقيس ) يتناولون الف بيضة واكثر يضعونها كلها فى شبة افران متعددة الطوابق ، وفى الطابق الاعلى ثقب ، ثم يوقدون نارا خفيفة تحتها ، وبعد سبعة ايام تبدأ الفراخ تتولد بكثرة ، ثم يجمعونها فى اوعية كبيرة ويبيعونها مستعملين آلة كيل بدون قعر توضع فى سلة المشترى.
مما لاشك فيه ان الرحالة الوزان لم يكن هو اول من اشار الى خبرة اهل مصر فى عملية تفقيس بيض الدجاج على هذا النحو ، بل سبقه فى ذلك الرحالة المشرقى ( عبد اللطيف البغدادى) عند وصفه كذلك لما شاهده بمدينة القاهرة من صناعات وحرف وان كان نص الرحالة الوزان قد اضاف لنا ان اصحاب هذه المصانع كانوا يؤدون نوعا من الضرائب مرتبطا بهذه الصناعة فقال ( ويؤدى المختصون بتوليد الفراريخ اتاوة) ضرائب هامة للسلطان .
وعن طوائف الحرفيين وكيفية تعاملهم مع من يبتكر فى صنعته شيئا جديدا يقول الوزان ” واذا اتفق ان احد الصناع انجز فى حرفته عملا جيدا مبتكرا لم يسبق ان شوهد له مثيل البسوه سترة من ديباج وطافوا به من دكان الى دكان مصحوبا بالموسيقين فى شبه جولة المنتصرين وأعطاه كل واحدا شيئا من المال ، وقد شاهد الوزان بنفسه صورة حية لواحد من هؤلاء قد اتى بعمل خارق كان يدهش من رآه فيقول ” ورأيت بالقاهرة رجلا خصص له شرف الانتصار هذا لانه صنع سلسلة لبرغوثة كان يمسكها مقيدة بها على ورقة ” كما شاهد الوزان آخر سجله لاحد السقاة فقال ” وشهدت الذين يتجولون بقرب معلقة فى اعناقهم ، فقد راهن السقاة شخصا على انه سيحمل قربة جلد عجل مملوءة ماء مربوطة بسلسلة من حديد اياما عديدة ، وحمل فعلا هذه القربة على كتفه العارى طوال سبعة ايام متوالية .فربح ونال تكريم الانتصار الباهرة فى موكب ضم مختلف المغنين وجميع السقائين .
اسواق القاهرة وما يباع فيها من انواع الاطعمة
كان لتجول الرحالة فى اسواق القاهرة اثره فى تعرفهم على ما يباع فيها من انواع الاطعمة باسواقها الكبرى وقاموا باحصاء حوانيها ، وبينوا لنا طرق عرض ما يباع فيها فوصف ابن سعيد اطعمة اهل القاهرة فقال ( ومأكل اهل القاهرة الدميس والصبر والطحناه والبطارخ ،ولا تصنع النيدة وهى خلاوة القمح الا بها وبغيرها من الديار المصرية ثم يثتنى ابن سعيد بعد ذلك على جودة طبخ الاطعمة ويعزو ذلك الى الانتفاع ببعض الطباخات اللاتى تلقين تعليمهن فى القصور الفاطمية فيقول ( وفيها جوار طباخات اصل تعليمهن من قصور الخلفاء الفاطميين لهن فى الطبخ صناعة عجيبة ، ورياسة متقدمة ومطابخ السكر )
اما الوازن فكان وصفه اكثر تفصيلا حيث سجل جوانب عدة لما يباع فى اسواق القاهرة من أطعمة الى جانب ما امدنا به من احصائيات لاعداد بعض حوانيتها فيقول ( ويضم حى يسمى بين القصرين دكاكين يباع فيها اللحم الناضج ، وهى نحو ستين دكانا ، كلها مجهزة باوان من قصدير وتباع فى أخرى مياه مصنوعة من جميع أنواع الازهار مذاقها رفيع جدا ، ولذلك يشرب منها جميع النبلاء ، ويحفظها الباعة فى قوارير جميلة من الزجاج او القصدير مصنوعة بشكل فنى وتأـى بعدها دكاكين اخرى تباع فيها حلويات معروضة بطريقة حسنة ومختلفة عما يباع فى اوروبا وهى نوعان : نوع من العسل وأخر بالسكر ثم يأتى الفاكهانيون الذين يبيعون الفواكه المجلوبة من الشام كالاجاص والسفرجل والرمان مما لا ينبت فى مصر ، وبين هذه الدكاكين دكاكين اخرى مبعثرة فيها الفطائر والبيض المقلى ، والجبن المقلى ، وقرب هذه الدكاكين حى سكنه الصناع الذين يزاولون مختلف المهن الشريفة .
والنص السابق يعرض بكل دقة لما كان يباع فى سوق بين القصرين القائم الان بمدينة القاهرة ،ويوضح بعده التاريخى والحضارى ويلقى الضوء على نشاطه التجارى فى القرن 11 هـ 17م وهو نفس النشاط الذى يمارس فيه الى الان ، ولم يترك الوزان الباعة الجائلين دون ان يذكرهم فى وصفة الشامل لاسواق القاهرة فيقول ” وفيها كما فى كثير من المدن الاخرى – عدد لا يحصى ممن يتجولون طيلة النهار ، وهم يبيعون اشياء متنوعة كالفواكه والجبن واللحم النئ والمطبوخ ، وعدد كبير من الاشخاص الذين يحملون على الابل كميات من القرب الضخمة المملوءة ماء ، ويحمل آخرون على اعناقهم قربا مزخرفة فى اقواهها انابيب نحاس ، وبايديهم طاسات دمشقية منقوشة نقشا فنيا ، يسيرون وهم ينادون على الماء ، ويؤدى الزبون نصف فلس .
وسائل التنقل
لم تهمل نصوص الرحالة وصف الطرق ووسائل التنقل داخل القاهرة والفسطاط وخارجها حيث يتضح من خلال نصوصهم ان وسيلة النقل الداخلية كانت الدواب ، وخاصة الحمير والبغال ، اما التنقل بين المدن فكانت وسيلته الجمال او المراكب الجارية فى نهر النيل ، ومن الجدير بالذكر ان ابن بطوطة قام بعمل احصائيات لوسائل التنقل فى البر والنهر فقال ” وبمصر من السائقين الف مكان وان بنيلها من المراكب ستة وثلاثين الف للسلطان والرعية ”
ويقول البلوى ” اخبرنى احد كتاب السلطان انهم كتبوا واحصوا المراكب الجارية فى هذا النيل المعدة لابساع الزرع خاصة ، فالفوها تنيف على مائة الف مركب ما عدا الزواريق الصغار التى للصيد والركوب ” .
ويقول الوزان “ويوجد فى القاهرة اناس يعيشون من كراء الحمير يتخذون لذلك دواب كبيرة مدربة على ان تمشى هونا مزدانة باغطية جميلة ، فيكرونها مع غلام يسوقها ”
متنزهات القاهرة
وعن متنزهات القاهرة يقول ابن سعيد ” اذا احتاج الانسان الى فرجة فى نيلها مشى فى مسافة بعيدة بظاهرها بين المبانى الى خارج سورها الى موضع يعرف بالمقس .
واحسن موضع فى ظواهرها للفرجة ارض الطبالة ، لاسيما ايام القراط والكتان .
ومن متنزهات القاهرة ايضا –كما وصفها ابن سعيد – بركة الفيل التى وصفها بقوله ” واعجبنى فى ظاهرها بركة الفيل ، لانها كالبدر والمناظر فوقها كالنجوم ، وعادة السلطان ان يركب فيها بالليل ، وتسرج اصحاب المناظر على قدر همتهم وقدرتهم “