نظام الحسبة ومراقبة الأدوية عند العرب

إن مهنة الصيدلة من المهن الخطيرة عظيمة الشأن في حياة الإنسان، وقد أدرك المسلمون في العصور الوسطى ذلك الأمر، وعملوا على تنظيم العمل في هذه المهنة ووضعوا لذلك الكثير من القواعد والأسس التي تحكم العمل في هذا المجال، وكانت أول هذه الخطوات هو خضوع مهنة الصيدلة وكل ما يتعلق بها لمراقبة المحتسب، ولذلك نجد كتب الحسبة التي ألفها بعض علماء المسلمين تتضمن أبوايًا وفصولًا خاصة بالرقابة على الصيدلة والصيادلة؛ وذلك نظرًا لبعض حالات الغش والتدليس التي كانت تقع في هذا المجال، وممارسة بعض من لا يعرفون الصيدلة لهذه المهنة.

ولما كانت الحسبة في الإسلام هي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد تعرضت لهذا المجال لضبطه، ومنع التلاعب والغش فيه، لاسيما وأنه مجال يتصل بحياة الإنسان وصحتهم، والتي جعلها الإسلام في أوج وقمة اهتمامه.

ومن كتب الحسبة التي خاضت في هذا المجال كتاب الشيزري المسمى «نهاية الرتبة في طلب الحسبة» و«معالم القربي في أحكام الحسبة» لابن الإخوة، ورسالة ابن عبدون في القضاء والحسبة، وغيرها، وكل هذه الرسائل والكتب تكلمت عن مراقبة الصيادلة، ومما جاء بشأن الصيادلة في كتاب نهاية الرتبة: «تدليس هذا الباب والذي بعده كثير لا يمكن حصر معرفته على التمام، فرحم الله مَنْ يَنْظُرُ فيه، وعرف استخراج غشوشه فكتبها في حواشيه؛ تقربًا إلى الله تعالى، فهي أضر على الخلق من غيرها؛ لأن العقاقير والأشربة مختلفة الطبائع والأمزجة والتداوي على قدر أمزجتها، فمنها ما يصلح لمرض ومزاج، فإذا أضيف إليها غيرها أحرفها عن مزاجها فأضرَّتْ بالمريض لا محالة، فالواجب على الصيادلة أن يراقبوا الله ۵ في ذلك».

وينبغي للمحتسب أن يخوفهم ويعظِهم وينذرهم العقوبة والتعزير، ويعتبر عليهم عقاقيرهم في كل أسبوع. من غشوشتهم المشهورة أنهم يغشون الأفيون المصري بعصارة ورق الخس البري وبالصمغ([1])، وأما جميع الأدهان الطبية وغيرها فإنهم يغشونها بدهن الخل بعد أن يخلى على النار، ويُطْرَح فيه جوز ولوز مرضوض ليزيل رائحته ثم يمزجونه بالأدهان([2]).

كذلك من الإجراءات التي اتخذتها الدولة الإسلامية لمراقبة الصيادلة هي عدم سماح الدولة بممارسة ومزاولة مهنة الصيدلة بدون ترخيص أو إجازة؛ وذلك لأنه يفهم من المصادر العربية أن صيادلة العصور الوسطى كانوا يخضعون في كثير من الأحيان لإشراف الدولة التي كانت تقوم بامتحانهم ومنح الصالح منهم تصريحًا (رخصة) بمزاولة المهنة ونفي الآخرين([3])؛ وذلك بسبب لجوء بعضهم إلى الغش والتدليس، والادعاء بأن لديهم جميع الأدوية، وإعطائهم طالب العقاقير أدوية تخالف تمامًا الدواء المطلوب، معتمدين على جهل المرضى وعدم إلمامهم بأنواع الأدوية([4])، وذلك كما حدث في زمن الخليفة العباسي المأمون، والذي قَرَّرَ في عام 218هـ/ 833م إجراء امتحان لأمانة الصيادلة([5]).

ولقد أشار ابن أبي أصيبعة في كتابه إلى هذا الحديث فقال: (حدثني زكريا بن الطيفوري قال: كنت مع الأفشين (قائد جيوش المعتصم) في معسكره وهو في محاربة بابك، فأمر بإحصاء جميع مَنْ في عسكره من التجار وحوانيتهم، فلما بلغ إلى موضوع قال لي: يا زكريا، ضبط هؤلاء الصيادلة عندي أَوْلَى مما تَقَدَّم فيه، فامْتَحِنْهُم حتى تعرف منهم الناصح من غيره ومَنْ له دين ومن لا دين له، فقلت: إن يوسف الكيميائي كان يدخل على المأمون كثيرًا، فقال له المأمون يومًا: ويحك يا يوسف ليس في الكيمياء شيء، فقال له: بلى، يا أمير المؤمنين، وإنما آفة الكيمياء الصيادلة. فقال له المأمون: كيف ذلك؟ فقال: إن الصيدلاني لا يطلب منه شيء إلا أخبر أنه عنده ودفع إليه من الأشياء التي عنده، وقال هذا الذي طلبت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يضع اسمًا لا يعرف، ويوجه جماعة إلى الصيادلة في طلبه ليبتاعه، فقال له المأمون: قد وضعت الاسم وهو سقطيثا (وهي ضيعه بالقرب من بغداد) ووجه المأمون من الرسل للسؤال عن ذلك، فكلهم -أي الصيادلة- ذكروا أنه عنده وأخذ الثمن من الرسل، ودفع إليهم شيئًا من حانوته، فصاروا إلى المأمون بأشياء مختلفة، فمنهم من أتى ببعض البذور، ومنهم من أتى بقطعة حجر، ومنهم من أتى بوتد، فاستحسن المأمون ذلك([6]).

ومن الطريف أن نفس القصة تكررت أيضًا في سنة 221هـ/ 836 م في أيام الخليفة المعتصم، فقد نسب إلى الطبيب زكريا بن الطيفوري أنه قال: (كنت مع الأفشين في معسكره، وهو في محاربة بابك، ويبدو أن المعتصم استحسن ما حدث أيام المأمون مع الصيادلة، فطلب من الأفشين أن يمتحن الصيادلة، فدعا الأفشين بدفتر من دفاتر الأشروسنية، فأخرج منه نحوًا من عشرين اسمًا، ووجه إلى الصيادلة من يطلب منهم أدوية مسماة بتلك الأسماء، فبعضهم أنكرها وبعضهم ادعى معرفتها، وأخذ الدراهم من الرسل ودفع إليهم شيئًا من حانوته، فأمر الأفشين بإحضار جميع الصيادلة، فلما حضروا كتب لمن أنكر معرفة ذلك منشورات أذن لهم فيها بالمقام في المعسكر، ونفى الباقين عن المعسكر، ونادى المنادي بنفيهم وبإباحة دَمِ مَن وجد منهم في معسكره، وكتب إلى المعتصم يسأله البعثة إليه بصيادلة لهم أديان ومذهب جميل([7]).

وبمرور الوقت ازداد إشراف الدولة على مهنة الصيدلة من خلال شخص المحتسب، فلم يمض وقت طويل حتى نظمت صناعة التطبب، وقيدت بنظام خاص حرصًا على مصلحة الجمهور، وذلك على يد الخليفة العباسي المقتدر بالله جعفر بن المعتضد عام 319هـ /931م الذي منع سائر المتطببين من التصرف إلا من امتحنه سنان بن ثابت بن قرة([8]).

وكان على المحتسب ألا يعهد بعمل العقاقير والمعاجين والسفوفات وغيرها من الأدوية المركبة إلا لمن اشتهرت معرفته وظهرت خبرته وكثرت تجربته، وشاهد تجريب العقاقير ومقاديرها من أربابها وأهل الخبرة بها، في حضور عريف متخصص من قبله حتى تزول الظنة وترتفع الشبهة، فإن لم يمكنه حضور جميع ذلك عينت الحوائج وتحمل إلى مجلس في طبق أو غيره ليشاهدها ويعد عقاقيرها، ويقابلها بمن يعوّل عليه من الكناشات المشهورة والأقراباذينات المعروفة مثل أقراباذين سابور بن سهل والملكي لعلي بن العباس والقانون لابن سينا([9])، ودستور ابن أبي البيان ودستور أمين الدولة ابن التلميذ، وغير ذلك مما يوثق به؛ (لأن كل مطحون ومعصور مجهول)([10]).

وكان على المحتسب أن يعتبر أيضًا على العطارين، وأن يعرف عليهم عريفًا ثقة؛ لأن غشوش العطر كثيرة ومتنوعة لاختلاف أجناس الطب وأنواعه، وتجانس العقاقير الطبية وتقاربها في الرائحة([11]).

وكان على المحتسب ألا يمكن أحدًا من بيع العقاقير وأصناف العطر إلا لمن له معرفة وخبرة وتجربة، شريطة أن يكون أمينًا في دينه، عنده خوف من الله تعالى؛ لأن العقاقير كانت تشترى من العطارين مفردة ثم تُرَكَّب غالبًا، وقد يشتري الجاهل عقارًا من العقاقير معتمدًا على أنه هو ثُمّ يبتاعه منه جاهل آخر فيستعمله في الدواء متيقنًا منفعته فيحصل باستعماله عكس مطلوبه([12]).

إشراف الدولة على مكاييل وموازين الصيدلة

من الإجراءات التي اتخذتها الدولة لإحكام الإشراف والرقابة على مهنة الصيدلة والصيادلة: إشرافها الكامل على المكاييل الصيدلية، ومنها الأختام الدالة على إشراف الدولة على هذه المكاييل، فقد كانت هذه الأختام تتضمن النظام القائم على الإشراف في كل ولاية من الولايات الإسلامية، وهم الوالي، وعامل الخراج، وصاحب الشرطة، وهم المتعاونون على إصدار المكاييل الصيدلانية الرسمية من دار العيار وختمها بخاتم الدولة([13]).

لقد وصلت دقة الإشراف على هذه المكاييل الى أن خصصوا لكل مفرد دوائي مثل الجلجلات والدهن وحنا المرد وغيرها مكيلة خاصة بكل منها؛ حيث تضمنت المكيلة اسم هذا العقار المستخدمة لعياره، كما سجلوا على المكيلة سعر هذا المقدار من هذا العقار حتى لا يبالغ الصيدلي في أسعار الأدوية([14]).

 وضع دساتير الأدوية

كما وضع المسلمون بعض الدساتير في الأدوية حددوا فيها بدقة المكاييل والأوزان الخاصة بتركيب الأدوية، وهو ما عرف باسم الأقراباذين؛ حيث أصدر هارون الرشيد أمرًا إلى سابور بن سهل لعمل دستور للأدوية والمادة الطبية سماه (كراباذن)، والتي جاءت منها كلمة أقراباذين، وهي كلمة فارسية الأصل، تعني وضع قانون لمراقبة أصناف الأدوية وأثمانها مراقبة شديدة([15])، ولقد ظل معمولًا بأقراباذين سابور بن سهل في جميع دكاكين الصيدلة على مدى ثلاثة قرون إلى حين ظهور أقراباذين أمين الدولة ابن التلميذ في القرن 6هـ/ 12م([16]).

ونرى بذلك أن مهنة الصيدلة كانت إلى حد كبير تخضع لنظام مراقبة دقيقة من قبل الدولة وموظفيها، وكان الصيادلة أنفسهم لا يُسمح لهم بممارسة المهنة إلا بعد اجتيازهم لامتحان في تخصصهم، كذلك نجد أن الصيدليات وحوانيت العطارين كانت تخضع للتفتيش، وكان يوجد في كل مدينة كبيرة عميد للصيادلة الذين كانوا يدعون عطارين([17]).

إن المسلمين هم أول من أدخل التقييم لمهنة الصيدلة، فعينوا لكل مدينة عميدًا للصيادلة، وكان لا بد أن يقيد الصيدلي اسمه في جداول الصيادلة الخاص لذلك بعد نجاحه في امتحان الصيادلة.

كذلك منعت الدولة الإسلامية الصيدلي من التدخل في أمور الطبيب، ومنعت الطبيب من امتلاك صيدلية أو التعاطي بالأدوية، وفرضت الدولة تسعيره للأدوية، وحذروا الصيادلة من بيع السموم الضارة([18]).

بل إن سلطات المحتسب وإشراف ومراقبة الدولة طالت طائفة الشرابين؛ حيث كان المحتسب لا يُمَكّن مَنْ يعقد الأشربة ويركب المعاجين والأدوية الهاضمة إلا من اشتهرت معرفته، وظهرت خبرته، وكثرت تجربته، وشاهد تجريب العقاقير ومقاديرها من أربابها وأهل الخبرة بها، ولا يمكن المحتسب الشراب من تركيبها إلا من الكناشات المشهورة أو الأقراباذينات المعروفة مما يوثق به، ولا يدخل عليها ما ينافيها ويسلبها خاصيتها، وكان المحتسب أيضًا يفتش على أشربتهم كل شهر.

كذلك طالت المراقبة والتفتيش العطارين تلك الطائفة التي ترتبط بالصيدلة وصناعة العقاقير، ولقد بدأ الشيزري هذا الفصل بقوله: «إن غشوش العطر كثيرة ومختلفة أيضًا؛ لاختلاف أجناس الطب وأنواعه وتجانس العقاقير الطبية، وتقاربها في الرائحة»([19]).