لقد شيدت العديد من المدن فى العصر الاسلامى لعب الكثير منها دورا كبيرا فى التاريخ الاسلامى وكانت بعضها مراكز علمية وثقافية وبعضها حواضر للخلافة الاسلامية وبعضها الآخر شيد به العديد من المزارات الاسلامية وما زالت هذة المدن قائمةحتى اليوم يشهد ما بها من عمائر على مدى ما بلغته هذة المدن فى العصور الوسطى من ازدهار حضارى وتقدم فى العلوم والفنون وكان لابد لصفحة الموسوعة الشاملة للحضارة الاسلامية أن تلقى الضوء على عمارة المدينة الاسلامية ونتناول كيف نشأة المدينة الاسلامية وما أثر العقيدة الاسلامية فى نشأة هذة المدن وما هو الفكر الاسلامى العمرانى فى عمارة المدن وسوف يكون هذا الحديث بمثابة تمهيد يتبعه تناول المدن الاسلامية الكبرى تاريخها وعمارتها وبنائها ومعاملمها المختلفة
نشأة المدينة
إن كلمة مدينة أصلها دين وعرفت المدينة عند الأكديين والأشوريين بالدين اى القانون كما أن الديان يقصد بها فى اللغة الآرامية والعربية القاضى وكل هذة التفسيرات توافق ما ورد فى القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة وا أشارت اليه بعض المعاجم اللغوية فقد وضح من من تفسير القرآن أن كل المواضع التى أطلق عليها لفظ مدينة كان عليها حكام وملوك وتحققت فيها الصيغة القضائية والدينية والادارية والسياسية (1)
ولقد أشارت المعاجم اللغوية العربية الى أن كلمة مدينة ترجع الى كلمة دين وهى مشتقة من كلمة ودنته وتعنى ملكته فهو مدين ويرى البعض أن كلمة مدينة ترجع فى الاصل الى كلمة دين لكونها تملك (2)
المدن فى الحضارة الاسلامية
بدأ بناء المدن فى الحضارة الاسلامية مبكرا اذ ما كاد العرب يفتحون العراق ومصر وتونس فى زمن عمر بن الخطاب رضى الله عنه حتى كانوا قد وضعوا أسس أربعة مدن جديدة لم يكن لها وجود من قبل وهى البصرة والكوفة فى العراق والفسطاط فى مصر والقيروان فى تونس
ولقد ختلفت الغاية والطريقة فى بناء المدن الاسلامية الكبرى حيث كان الدافع الول لبنائها هو الغاية الحربية بالدرجة الأولى حيث شيدت فى بدايتها كمعسكرات لجيوش المسلمين ولما استقر الحكم الاسلامى أصبح ينظر الى هذة المدن لتكون حاضرة أو مركزا للتجارة (3)
ولقد أنشأ المسلمون العديد من المدن بقى معظمها قائما الى اليوم كالبصرة والكوفة وبغداد وسامراء والقاهرة والقيروان وفاس كما وسعوا وزادوا من مساحة وأبنية عدد آخر من المدن أهمها أصفهان والموصل وحلب ودمشق والقدس والاسكندرية وقرطبة وغرناطة ( 4)
الفكر الاسلامى العمرانى فى عمارة المدن
يكشف ما ورد فى بطون الكتب وما جاء ضمن الوثائق عن مستوى فكرى متقدم للحضارة الاسلامية فى مجال العمران وتخطيط المدن وانشائها وتنظيم أعمال الانشاء والبناء ولقد امتاز الفكر الاسلامى بالشمولية فى مبادئه العامة وبالتتخصصية فى جزئيات التطبيق ونظرة دقيقة فى المصادر الاسلامية ولا سيما كتب تاريخ الاجتماع السياسى نجد فيها أبوابا خاصة بالعمران توضح الأسس والنظريات التى يجب على الحاكم اتباعها فيما يختص بسياسية العمران ووجدت بهذة المصادر أفكارا تعكس مستوى الفكر العمرانى ومنزلته لدى الحكام المسلمين الذين سعوا لتطبيقه فى انشاء المدن الاسلامية (5)
أسس الفكر العمرانى فى الحضارة الاسلامية
من أهم الأسس التى وضعها الفكر العمرانى الاسلامى أن المفكرين المسلمين اعتبروا أنهم جعلوا ” تكثير العمارة ” تحتل الركن الخامس من أركان الملك بعد تنصيب الوزير واقامة الشريعة واعداد الجند وحفظ المال (6)
بل إن ابن حزم ركز عاى هذة الفكرة وقال ” ( يأخذ السلطان الناس بالتجارة وكثرة الغراس وبقطعهم الاقطاعات فى الأرض الموات ويجعل لكل واحد ملك ما عمر ويعينه على ذلك لترخص الأسعار ويعيش الناس والحيوان ويعظم الأمر ويكثر الأغنياء وما يجب فيه الزكاة ( 7)
ـ كما كشف الفكر العمرانى الاسلامى عن العلاقة الوطيدة بين العمارة وازدها الحالة الاقتصادية وانعكاس ذلك على رخاء المجتمع وظهر ذلك الفكر فى السياسة التى انتهجها الحكام فهذا هو الخليفة العباسى المعتصم يقول : ( إن العمارة فيها أمور محمودة أولها عمران الأرض التى يحيا بها العالم ، وعليها يزكو الخراج ، وتكثر الأموال وتعيش البهائم وترخص الأسعار ويتسع المعاش ) ( 8)
كما عكس لنا فكر ابن خلدون مؤسس علم عن أهمية العمارة والعمران فقال ( إن الدولة دون العمران لا تتصور والعمران دونها متعذر) (9)
ولقد أشار الفكر العمرانى الاسلامى فى مصادره الى الاسباب التى تساعد على العمارة وحفظها كالعدل فقالوا لا جباية بعمارة ولا عمارة الا بعدل وفى السياسة بالعدل عمرت الأرض وقامت الممالك ( 10)
ولقد حدد الفكر العمرانى الاسلامى الكثير من الأسس والقواعد والشروط لانشاء المدن وبنائها منها ما يتعلق باختيار مواقع المدن ووضعوا من الشروط ما يساعد على اختيار الموقع الملائم فهذا ابن الربيع يذكر فى كتابه ” سلوك المالك فى تدبير الممالك على التمام والكمال ” يذكر عن شروط اختيار موقع المدينة فيقول ( سعة المياه المستعذبة وإمكان الميرة المستمدة واعتدال المكان وجودة الهواء والقرب من المرعى والاحتطاب وتحصين منازلها من الأعداء والزعار وأن يحيط بها سور يعين أهلها ) (11)
وذكر ابن الربيع كذلك بعض الشروط التى يجب مراعاتها والأخذ بها عند اختيار موقع المدينة منها ” أن يسوق إليها الماء العذب ليشرب أهلها ويسهل تناوله من غير عسف ، وأن يقدر طرقها وشوارعها حتى لا تتناسب ولا تضيق ، وأن يبنى جامعا للصلاة وسطها ليتعرف على جميع أهلها وأن يقدر أسواقها بحسب كفايتها لينال سكانها حوائجهم عن قرب وأن يميز بين قبائل ساكنيها بالا يجمع اضدادا مختلفة متباينة وإن أراد سكناها فليسكن أفسح أطرافها ويجعل خواصه محيطين به من سائر جهاته وأن يحيطها بسور مخافة الأعداء لأنها بجملتها دارا واحدة ” ) ( 12)
كما أشار ابن الأزرق فى كتابه بدائع السلك فى طبائع الملك الى ما يجب مراعاته فى اختيار مواقع المدن فقال ( ما يجب مرعاته فى أوضاع المدن أصلان مهمان دفع المضار وجلب المنافع والمضار نوعان أرضية ودفعها يكون بإدارة سور على المدينة ووضعها فى مكن ممتنع إما على هضبة متوعرة من الجبل وإما باستدارة بحر أو نهر بها حتى لا يوصل اليها إلا بعد العبور على الجسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو ويتضاعف تحصينها
ومضار سماوية ودفعها يكون باختيار المواضع طيبة الهواء لأن ما خبث منه بركوده أو تعصف بمجاورته مياه فاسدة أو منافع متعفنة أو مروجا خبيثة يسرع المرض فيه لا محالة ) ( 13)
وتكلم ابن الأزرق عن الأصل فى اختيار المدن وهو جلب المنافع فقال ( وجلب المنافع يكون بتوفر الماء كأن يكون البلد على نهر وطيب مرعى وقرب المزارع لأن الزرع هو القوت وكونها كذلك أسها فى اتخاذه وأقرب فى تحصيله والشجر للحطب والخشب للمبانى ) ( 14)
لقد سار تخطيط المدن فى الحضارة الاسلامية فى توافق تام مع أحكام البناء التى أقرها فقهاء المسلمين استنادا للقرآن الكريم والسنة النبوية وتزخر المصادر الفقهية بهذة الاحكام
ولقد تناول الفقهاء فى كتب الحسبة أحكام البناء والعمارة فى المدن فأوجبوا بناء المساجد والأربطة والحصون للدفاع عن حرمت المسلمين وأجبوا بناء الأسوار والجسور والقناطر والسدود كمنافع عامة وقسم القهاء البناء فى المدن الى ثلاثة أقسام
البناء المندوب : كبناء المآذن والمساجد والأسواق والحمامات
ـ البناء المباح : كبناء المساكن والحوانيت
ـ البناء المحظور : كبناء القبور والكنائس
ووضعت كتب الحسبة مواصفات مواد البناء وأطلقوا عليها طهارة مواد البناء ووضعوا عقود شروط البناء (15)
ومن أهم المبادىء التى صار عليها تخطيط المدن الاسلامية والتى نبعت من الفكر الاسلامى مبدأ لا ضرر ولا ضرار وهو الحديث الذى نص عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم والذى أخرجه الموطأ ورواه أحمد فى مسنده
ولقد تجلى تطبيق هذا المبدأ فى محاولة المخططين المعماريين المسلمين منع الضرر عن سكان المدن وذلك بنقل الصناعات الى خارج المدن لتجنب ما ينجم عنها من ضوضاء وروائح كريهة او دخان وللك نجد الصناعات الكبيرة مثل مصانع مواد البناء كانت تقع خارج أسوار المدينة الاسلامية ، ولقد وضح ابن الرامى ان الضرر يأتى من الدخان والضوضاء وسوء استعمال الطرق ( 16)
إن ما ورد بشأن المدن الاسلامية فى المصادر الاسلامية سواء كانت كتب فى التاريخ السياسى او الاجتماعى أو كانت كتب الحسبة وأحكام البناء كل ذلك التراث يعكس الاهتمام الكبير من المسلمين بالعمارة والعمران وكيف ساهم المسلمون فى التمدن الانسانى وازدهار الحركة العمرانية فى البلاد التى فتحوها بعكس ما يحلو لبعض الباحثين الأجانب من تصويره فى مؤلفاتهم من أن المسلمين قد أثروا بالسلب على الحركة العمرانية ولم يضيفوا اليها شىء ولقد نفى ذلك الادعاء باحثين أجانب أيضا ولكنهم منصفين للحضارة الاسلامية حيث أثبت هولاء الباحثين الدور الكبير للمسلمين فى اتخاذ المدن وتشييد المراكز العمرانية وذكروا أن الاسلام أحدث ثورة فى تاريخ التمدن العالمى ( 17)