مدينة بغداد من أشهر المدن فى العصور الوسطى هى عاصمة الخلافة العباسية والتى كانت من أكبر الامبرطوريات فى العالم خضعت لها الكثير من البلاد والأمم وكانت بغداد هى حاضرة الخلافة ودرة مدنها فيها كرسى الخلافة واليها تتجه الانظار وتفد السفارات والوفود والعلماء والشيوخ وفيها بيت الحكمة والمدراس والمساجد والأضرحة والأئمة عاش فيها أبوحنيفة النعمان صاحب المذهب الحنفى وعاش فيها الفقهاء والعلماء وأيضا عاش فيها زرياب واسحاق الموصلى وصل فيها البرامكة لأعلى مكانة ممكن أن تصل إليها أسرة فارسية الأصل وأيضا شهدت بغداد نكبتهم وضياعهم واختفاء أثرهم على يد هارون الرشيد
بغداد شهدت الأفراح والأتراح شهدت أفراح ما زال لسان التاريخ يذكرها حتى اليوم وتناقلتها كتب المؤرخين مثل حفل زفاف هارون الرشيد على السيدة زبيدة ابنه عمه وشهد أيضا الصراع الدامى بين الأخوين غير الشقيقين الأمين العربى والمأمون الذى نصفه فارسى شهدت مجالس العلم والطرب شهدت الازدهار فى العمارة والفنون والشعر والخطابة وكانت مساجدها ودور العلم فيها ومدراسها قبلة للمسلمين من أنحاء المعمورة لطلب العلم والفقه أو طلب المنصب والمكانة والرئاسة
بغداد التى حاصرها تتار الأمس ودخلوها عنوة وعاثوا فيها خرابا وفساد وتدميرا لعمائرها ومساجدها ومكتباتها وقتلوا الأطفال والرجال والنساء وتلونت انهارها بلون أحبار الكتب هى نفسها بغداد الى حاصرها ودمرها تتاراليوم الذين مازالوا قابضين على زمام الأمور فيها فى منطقتهم الخضراء وكأنهم قرروا أن لا تعود بغداد لسالف عهدها أبدا
بغداد اليوم تئن وتبكى ماض مجيد وحضارة كانت يوما من أعظم حضارات العالم
فما هى قصة مدينة بغداد منذ أن أسسها الخليفة أوجعفر المنصور وحتى دخلها الأمريكان وعاثوا فيها فسادا وتدميرا وتخريبا ونهبا ومحول للهوية العربية والاسلامية وقتلا لعلماء المسلمين فى المجاللات المختلفة
بعد أن بويع أبوالعباس السفاح بالخلافة فى مدينة الكوفة حيث اتخذها مقا للحكم ثم تحول إلى الأنبار حيث أسس مدينة الهاشمية واتخذها مقرا للحكم وأقام فى هذة المدينة الخليفة أبو جعفر المنصور والذى قرر أن يؤسس مدينة جديدة يتخذها مركز لحكمه ومقرا للخلافة العباسية وكانت الخطوة الأولى هى اختيار المكان المناسب لهذة المدينة ووقع الاختيار على مكان يسمى بغداد ومعناها عطاء الله ويقع هذا المكان فى أرض السواد الخصيبة ووتتقابل عنده طرق التجارة الرئيسية (1)
وحرصا من أبوجعفر المنصور على صالحية المكان لاقامة عاصمة الخلافة فقد كلف بعض رجاله بالمبيت فى المكان ليدرسوا أحواله فلما انتهوا من همتهم قدموا على المنصور وأجمعوا على أفضلية المكان (2)
وبعد اختيار موقع المدينة بدأت مرحلة الاعداد والتخطيط فطلب أبوجعفر المنصور من ولاته أن يوافوه بأفضل من عندهم من العمال والخبراء فى تأسيس المدن والبناء والتعمير (3)
ويذكر ياقوت الحموى فى كتابه الرائع معجم البلدان أنه جمع له من له معرفة بالهندسة والفقه وتقدم اليهم أن يشرفوا على البناء وكان ممن حضر الحجاج بن أرطأة وأبوحنيفة النعمان وكان أول العمل فى بناء بغداد سنة 145 هجرية (4)
وذكروا أن الخليفة المنصور أحب أن ينظر الى المدينة ويدرس تخطيطها قبل أن يحفر الاساس فأمر أن يخط بالرماد ثم أقبل يدخل من كل باب ويمر فى طاقاتها ورحابها وهو ينظر الى ما خط من خنادقها (5)
فلما فعل ذلك أمر ان يجعل على تلك الخطوط حب القطن ويصب عليها النفط فنظر اليها والتنار تشتعل ففهمها وعرف رسمها وشكلها وأمر أن يحغر أساس ذلك الرسم حتى بدأت مرحلة ارساء الاساس فتولى المنصور بنفسه وضع أول لبنة بيده وقال : ” بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ” ثم قال ابنوا على بركة الله (6)
ولعل ما فعله أبوحعفر المنصور حين اختار موقع بغداد لهو دليل على مراعاة العوامل البيئية بعامة وطيب الهواء وبخاصة فى تغيير مواقع المدن حيث يذكر الطبرى فى كتابه تاريخ الرسل والملوك ” أن الخليفى العباسى خرج الى الموقع وبات فيه وكرر نظره فيه فرأه موضعا طيبا موافقا ولم يكتف ابوجعفر بذلم بل استقصى الأمر من السكان وكيف هو فى الحر والبرد والأمطار والوصول والبق والهوام فأخبره كل واحد بما عنده وزيداة فى الاستقصاء وجه الخليفة رجالا من قبله وأمر كل واحد منهم أن يبيت فى قرية من القرى المحيطة بالموقع فبات كل رجل فى قرية وأتاه منها بخبرها . (7)
ولقد أشار اليعقوبى فى كتابه تقويم البلدان الى المهندسين والمشرفين الذين تولوا الاشراف والتخطيط لبناء مدينة بغداد فقال : ( إن الذين هندسوها عبدالله بن محرز والحجاج بن يوسف وعمران بن الوضاح وشهاب بن كثير وأن المنصور قلد للقيام بكل ربع رجلا من المهندسين ( 8)
وأن عمران بن الوضاح المهندس أشرف على بناء الأرباض الممتددة من باب الكوفة الى باب البصرة وباب المحول والكرخ وما اتصل به وأشرف عبدالله بن محرز المهندس على الربع من باب الكوفة الى باب الشام وأشرف الحجاج بن ارطأة من باب الشام الى ربض حرب وكان اشراف شهاب بن كثير المهندس من باب خراسان الى الجسر الذى على دجلة والى باب قطربل (9)
وذكر الحافظ أبى بكر أحمد بن الخطيب ” أن أبا حنيفة النعمان بن ثابت كان يتولى القيام بضرب لبن المدينة وعده وكان أبو حنيفة يعد اللبن بالقصب وهو أول من فعل ذلك واستفاد الناس منه (10)
أسماء بغداد
لقد تعددت الاسماء التى عرفت بها مدينة بغداد فقد ذكر ياقوت الحموى ( أن أصل كلمة بغداد أعجمى وهى تنقسم الى بغ, داد وذكر انها اسم فارسى معرب ويقال لها بغذاذ ومغداد ومغدان وأما لفظ الزوراء فمدينة المنصور وسميت مدينة السلام لأن دجلة يقال لها وادى السلام أو لأن الله هو السلام والمدن كلها له ( 11)
وقيل أن بغداد كلمة فارسية معناها هبة من الله وكانت تطلق على بلد ساسانى قديم ولقد آثر المنصور الاحتفاظ بالاسم بعد بناء عاصمته عام 145 هجرية ( 12)
كما عرفت بغداد بالمدينة المدورة لأنها شيدت على شكل دائرة وفى ذلك يقول اليعقوبى ” أنه لا تعرف فى جميع الأرض مدينة مدورة غيرها ) ( 13)
وصف المدينة
لقد شيدت بغداد بالطوب اللبن والطوب فى العراق يأخذ شكل البلاطة المربعة ولقد ذكر بعض المؤرخين أن الخليفة المنصور قرر جلب الطوب من ايوان كسرى بعد هدمه ونقله إلا أن خالد بن برمك نصحه بالعدول عن تلك الفكرة لزيادة النفقات عن قيمة المواد نفسها وقد استعمل الطين كنوع من الملاط كما استخدم البوص كرباط بين المدميك واستخدم الجص كمونة فى لحام المداميك والطوب ( 14)
تصميم وتخطيط مدينة بغداد
صممت بغداد على شكل دائرة وذلك أدى الى توفير نفقات البناء لأن محيط الدائرة يقل طوله عن محيط المساحة المربعة ويقال أن محيط المدينة كان ستة عشر ألف ذراع وقطرها ( 5093) ذراع وكان أساسها من الحجر ومبانيها من الطوب وكان للمدينة سوران خارجيان بينهما فصيل أو فضاء وكان السور الخارجى يحيط به خندق عميق أجرى فيه الماء من قناة تخرج من نهر كرخايا ( 15)
أما أبواب المدينة فكانت لها أهمية خاصة فى تطورها العمرانى فهى المنافذ الوحيدة لحصن محصور بالأسوار والخنادق مما يجعل حركة الناس فيها أوسع وأكثر نشاطا وكان للمدينة أربعة أبواب وهى باب خراسان وباب الشام وباب الكوفة وباب البصرة ولقد سمى كل باب باسم المدينة أو الاقليم الذى يقابله
وتتفق المصادر على أن كل باب كان يتكون من بابين أحدهما للدخول والآخر للخروج وكان يغلق على هذة الأبواب مصاريع من الحديد لا يغلقه ولا يفتحه الا جماعة من الرجال لقوة وثقل هذة الأبواب وكانت الأبواب مرتفعة بحيث لو دخل منها فارس بالعلم والرمح الطويل من غير أن يميل العلم ولا يثنى الرمح( 16)
ولقد ظلت أبواب بغداد موجودة حتى عام 350 هجرية حيث نزعها معز الدولة كما ظل السور المحيط بالمدينة والخندق قائمين حتى أواخر العصر العباسى ( 17)
قلب المدينة
أما قلب مدينة بغداد فكان يوجد به قصر الخليفة المنصور وكان يعرف باسم قصر الذهب أو قصر باب الذهب وكانت أعم أجزائه القبة الخضراء وكان يعلو قبة القصر تمثال لفارس ممتطى جواده وهو يتجه مع الريح وقد سطقت هذة القبة عام 329 هجرية
وكان المسجد الجامع بجوار القصر وملاصقا له من الناحية الشمالية الشرقية وحول قصر الخليفة كانت توجد قصور الأمراء والمبانى الحكومية
وفى الأربع مساحات المحصورة بين مداخل بغداد الأربعة كانت توجد المناطق السكنية وكانت شوارع المدينة الرئيسية تتجه نجو قلب المدينة
وكان لموقع بغدا المتميز أثرا كبيرا فى سرعة عمرانها اذ لم تقتصر المبانى على المدينة المدورة بل شيدت حولها وخارجها الأحياء والقصور ( 18)
الرحالة ووصف مدينة بغداد
زار الكثير من الرحالة المسلمين بغداد ووصفوها فى كتاباتهم ومن هولاء الرحالة ابن بطوطة الذى قال عن بغداد” ( ولبغداد جسران أثنان معقودان والناس يعبرونهما ليلا ونهارا رجال ونساءا فهم فى ذلك فى نزهة متصلة وببغداد من المساجد التى يخطب فيها وتقام فيها الجمعة أحد عشر مسجدا وكذلك المدارس والحمامات كثيرة وهى من أبدع الحمامات والجانب الغربى من بغداد وهو الذى عمر أولا وبه المساجد الجامعة وجامع المنصور والمارستان والقصر والجانب الشرقى من بغداد حافلة بالأسواق العظيمة وأعظمها سوق الثلاثاء وفى وسط السوق المدرسة النظامية وفى آخره المدرسة المستنصرية ) ( 19)
كما وصف بغداد ابن رسته فى كتابه الاعلاق النفيسة فقال : ( فلما انقض ملك بنى أمية نزل أبى العباس الأنبار مدة أيامه إلى أن مضى واستخلف المنصور أبوجعفر فتحول الى بغداد وبنى مدينة السلام ونهر دجلة يجرى وسط المدينة وعمارة بغداد المسماة مدينة السلام فى الجانب الغربى من دجلة التى بناها المنصور وهى مدينة حصينة ولها سوران وبين السورين فصيل وخارج السور خندق ولهذة المدينة أربعة أبواب على كل باب نها قبة خضراء قد بنى ول كل قبة مجلس ) (20)
إن بناء مدينة بغداد له الكثير من الدلالات التاريخية والسياسية فمن الناحية السياسية كان بناء المدينة رمزا للدولة الجديدة التى حلت محل الخلافة الأموية وكان هناك اصرارا من جانب الخلفاء العباسيين الأوائل على بناء مدينة كبيرة تكون بمثابة العاصمة لدولتهم التى أصبحت فيما بعد امبراطورية مترامية الأطراف تمتد من الصين شرقا وحتى الأطلسى غربا فكان بناء هذة المدينة والاهتمام بعمارتها وتشييد القصور والمساجد والدواووين والحدائق بها للإعلان عن ميلاد الخلافة العباسية وانتقال حاضرة الملك من دمشق ببلاد الشام الى بغداد مدينة السلام
كما أن بناء المدينة يتفق مع العرف الذى سار عليه أغلب مؤسسى الدول وهو تأسيس عاصمة جديدة تكون رمزا وعنوانا لهم