لقد كان امتناع القدس عن المسلمين وصمودها للحصار لفترة اكثر من سنة برهانا على ما توافر لبيت المقدس من قوة التحصينات ، وقد اهتم الامويون ومن بعدهم الفاطميون ، بدعم تحصينات المدينة المقدسة وزيادة قوة اسوارها ، وكانت منحدرات وادى السيدة مريم (وادى كيدرون كما اطلق عليه الصليبيون فيما بعد) تضمن حماية الاسوار من الشرق بقوة منحدراتها وشدة هبوطها ، أما فى الجنوب الشرقي من المدينة tكان هناك وادى جهنم ويحاذى السور الغربي واد اخر يقل عمقا عن الواديين الآخرين ولذلك فإن المنطقة الوحيدة التي تصلح للهجوم على التحصينات هي الجهة الجنوبية الغربية ، حيث يجتاز السور جبل مهيون ويستمر على امتداد السور الشمالى اما القلعة وهي برج دود فتقع فى منتصف السور الغربى وتسيطر على الطريق الذي يسير ازاء جانب التل حتى باب يافا .
وقد تناوب الفاطميون والسلاجقة الصراع للسيطرة على بيت المقدس ، وعندما وصلت الحملة الصليبية الاولى الى فلسطين كانت القدس تحت حكم افتخار الدولة الفاطمي وكانت اسوار المدينة فى حالة جيدة ، كما كان بها حامية قوية من المسلمين ، وعندما علم افتخار الدولة باقتراب الصليبيين ، عمل على ردم الآبار الواقعة خارج اسوار المدينة ، واستعد للحرب ([1])
واقترب الصليبيون من القدس وحاصروها وظلوا شهرا تحت اسوار بيت المقدس فى الاستعداد لاقتحامها وبدأت المحاولات الصليبية الجدية لاقتحام المدينة واسوارها فحاصر الدوق جودفرى وكونت الفلاندر وكورنت نورما ندى القدس من الجانب الشمالى بينما عسكر الكونت ريموند غربى المدينة وفرضوا حصارهم عليها من معسكر الدوق وحتى جبل صهيون ([2])
ونجح الصليبيون بعد محاولات عديدة بقيادة فرسان الدوق جودفرى فى تحطيم التحصينات الخارجية الشمالية للقدس واقترب الصليبيون من اسوار المدينة ، واسرع الصليبيون بالاستيلاء على أبراج مدينة القدس والدخول الى داخل المدينة من الباب الشمالى ([3]) ونجح الدوق جود فرى اقتحام المدينة من هذة الناحية ودخل مع فرسانه واندفع تنكريد بمن معه الى داخل المدينة ولم يجد المسلمون ازاء هذا الهجوم الا ان يعتصموا بالحرم الشريف ، وتعقبهم الصليبيون بقيادة تنكريد وانضمت اليه قوات ريموند الصنجيلى ووضضعوا السيوف فى اللائذين بالحرم ([4]) وذكر ابن الاثير فى كتابه الكامل فى حوادث عام 492 هـ “أن المسلمون انسحبوا الى برج داود حيث “اعتصموا به وقاتلوا فيه ثلاثة ايام ، ولكنهم لم يلبثوا ان القوا السلاح ” ([5])
ولقد افاض المؤرخون فى ما ارتكبه الصليبيون من مذابح ضد المسلمين الذين لجأوا للاحتماء بالمسجد الاقصى ووضفوا وحشية وعنف الصليبيون ومن هولاء المؤرخ الجغرافى ياقوت الحموى فى كتابه “معجم البلدان ” فقال “أن الصليبيون نزلوا على بيت المقدس فأقاموا عليها نيفا واربعين يوما ثم ملكوها من شماليها من ناحية باب الاسباط عنوة فى اليوم الثالث والعشرين من شعبان سنة 492 هـ ووضعوا السيف فى المسلمين اسبوعا والتجأ الناس الى الجامع الاقصى فقتلوا فيه ما يزيد على سبعين الفا من المسلمين واخذوا من عند الصخرة نيفا واربعين قنديلا فضة ، وستمائة درهم فضة وتنور فضة ، واموالا لا تحصى ، وجعلوا الصخرة والمسجد الاقصى مأوى لخنازيرهم ([6])
كذلك اشار المؤرخ وليم الصورى الى أن منظر الصليبيين وهم ملطخين بالدماء كان يشير الرعب حتى في قلوب الصليبيين أنفسهم ، فقد أحدث الصليبيون الكثير بالمسجد الاقصى حيث انشأ جود فرى مبنى معقود بجانب المسجد اخذه معسكرا ، وحول المسجد الاقصى الى كنيسة بعد أن وضعوا على قبته صليبا بدلا من الهلال ، كما اتخذوا من الاقبية الموجودة تحت المسجد اسطبلات لخيولهم ([7])
كما أشار ابن الاثير فى تاريخه لما حدث يوم دخل الصليبيون بيت المقدس جاء فيه “دخل الصليبيون بيت ضحوة نهار يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة اثنين وتسعين واربعمائة وركب الناس السيف ولبث الفرنج فى البلدة اسبوعا يقتلون فيه المسلمون واحتمى جماعة من المسلمين بمحراب داود فاهتموا به وقاتلوا فيه ثلاثة ايام ، وقتل الفرنج بالمسجد الاقصى ما يزيد على سبعين الفا منهم جماعة كثيرة من ائمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارق الأوطان وجاور بذلك الموضع الشريف” ([8])
وذكر المؤرخ الصليبي فومشيه الشارترى المعاصر لاقتحام القدس تفاصيل تلك المذبحة المروعة التي جرت فى مسجد عمر بن الخطاب بذكر ذبح الصليبيين لعشرة الاف مسلم حول المسجد الاقصى وفى داخله فيقول “وانك لو كنت موجودا هناك لغاصت قد ماك حتى العقبين فى دماء المذبوحين ، لم تترك منهم احدا على قيد الحياة ولم ينج حتى النساء والاطفال .
كذلك أكد على هذا المعنى المؤرخ ريموند الاجويلدي الذي كان شاهد عيان أيضا فقال “خاض الصليبيون فى رواق مسجد عمر بخيولهم حتى وصلت دماء المسلمين الى ركبهم ، وإلى سروج خيولهم ” ([9])
وهكذا احتل الصليبيون القدس واقاموا بها ما يعرف فى التاريخ بمملكة بيت المقدس التي قامت على أشلاء النساء والأطفال من المسلمين .
وعند الحديث عن الاحوال الدينية للمسلمين فى مملكة بيت المقدس الصليبية يجب ان نذكر ان المسلمين لم يمارسوا شعائرهم الدينية بحرية ، فقد قام الصليبيون بتحويل المساجد الاسلامية الى كنائس ، وعلى رأسها المسجد الاقصى الذي تحول الى كنيسة وهناك مثال على محاولة اجبار الفارس أسامة بن منقذ على تغيير اتجاه صلاته نحو الشرق ، بينما هو يصلى بجوار المسجد الاقصى ([10])
ولقد كان لاحتلال بيت المقدس أثر بالغ في نفوس المسلمين عامة ، والشعراء منهم على وجه الخصوص ، فقالوا عدة قصائد فى ذكر هذه الواقعة المفجعة ، تحصروا فيها على ما حل بالمسلمين ومدينتهم المقدسة ، وذكروا ما فعله الافرنج بمقد سات الاسلحة من امتهان وازدراء من ذلك .
أحل الكفر بالاسلام خيما يطول عليه للدين النحيب
فحق ضائع وحمى مباح وسيف قاطع ودم صبيب
وكم من مسلم أمسى سليبا ومسلمة لها حرم سليب
وكم من مسجدا جعلوه دير على محرابه نصب الصليب
دم الخنزير فيه لهم خلوق وتحريقالمصاحف فيه طيب
مور لو تأملهن طفلا لطفل فى عوارضه المشيب
اتسبى المسلمات بكل ثغر وعيش المسلمين اذا يطيب
اما لله والاسلام حق يدافع عنه شبان وشيب
فقل لدوى البصائر حيث كانوا اجيبو الله ويحكم اجيبوا ([11])
ولقد حول الصليبيون المسجد الاقصى الى كنيسة سموها بالاتيوم او تاميلوم سولومونيس ، وجعلو بعض أقسامه مساكن لمنظمة فرسان الهيكل ، وأضافوا اليه من الجهة الغربية وعلى محاذاة حائط الحرم القبلى منه صفا مزدوجا من القناطر المعقودة واستعملوا هذه الزيادة مخزنا لأسلحتهم واتخذوا من السراديب التي تحته اسطبلا لدوابهم ([12])
الاقصى فى زمن الاحتلال الصيبي 1099 الى 1187 م
عندما احتل الصليبيون القدس عزوا نظام الحياة الاجتماعية والدينية فيها ، وحولوا المقدسات الاسلامية ، مواقع المسجد الاقصى الذي اصبح فى عهدهم مقرا للملك فردريك ، والصخرة اصبحت كنيسة ، والمصلى المواني استطبلا كذلك اصبحت مواقع عديدة مقر الفرسان الهيكل ([13])