لقد خطيت مدينة القدس فى العصر الاموي بمكانة مرموقة رفيعة ، وقد شملتها رعاية واهتمام خلفاء بنو اميه لما لها من مكنة عظيمة فى نفوس المسلمين حتى ان الخليفة الاموي الأول معاوية ابن ابى سفيان تشير المصادر التاريخية الى أنه “بويع بالخلافة بايلياء ” ([1]) مما يدل على ما تمثله المدينة من أهمية وقدسية

ولقد استمر اهتمام بنوا أمية بمدينة القدس بل زاد هذا الاهتمام كثيرا فى عهد خلفاء معاوية ابن ابى سفيان ، ولقد لعبت الأحوال والظروف السياسية الى أحاطت بقيام ونشأة الخلافة الأموية لعبت دورا كبيرا فى زيادة الاهتمام والرعاية التي أولاها خلفاء بنو أمية بمدينة القدس .

 عبد الملك بن مروان وبيت المقدس

هو أعظم خلفاء بنو أمية اثرا فى الخلافة الاموية سياسيا وعمرانيا واقتصاديا ، وهو أكثر خلفاء بنو امية اهتماما ببيت المقدس ، وعبد اللمك بن مروان الذي كان أول من سمي باسم عبد الملك فى الاسلام ، وكان اول فرد من الاسرة الاموية فى بيئة اسلامية كاملة وكانت نشأته من ولادته نشأة إسلامية محضة ([2])

بويع لعبد الملك بالخلافة في حياة أبيه ولما مات ابوه سنة خمس وستين من الهجرة جددت له البيعة بدمشق ومصر وأعمالهما فاستقرت يده على ما كانت يد أمية عليه ([3])

ولقد قام عبد الملك بن مروان فى بيت المقدس بالكثير من الأعمال العمرانية منها تعبيد الطريق التي تصل القدس بدمشق واريحا والساحل وعبد طريق باب الواد وطوله خمسة عشر ميلا وقد عثر فى سنة 1893م فى باب الواد على طريق الرملة على صوة منقوش عليها ما نصه ” أمر بعمارة هذه الطريق وصفة بالاميال عبد الله عبد الملك امير المؤمنين رحمة الله عليه ،من ايلياء الى هذا الميل ثمانية اميال ” ([4])

وربما كانت للظروف السياسية التي أحاطت بنشأة الخلافة الأموية وما جابه هذة الخلافة من مشكلات وثورات ومحن ما دفع الخليفة عبد الملك بن مروان الى الاهتمام بعمارة وعمران بيت المقدس لما لها من مكانة خاصة فى قلوب المسلمين فهو اولى القبلتين و ثالث الحرمين وهي مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تأتي فى الأهمية بعد مكة والمدينة ، وكلما أبدى الامويون الاهتمام بعمارة هذه المدينة والاكثار من المنشآت الدينية بها كلما زاد ذلك من مكانتهم وعلا قدرهم فى العالم الاسلامي ، ويبدو أن ذلك ما فطن اليه خلفاء بنو امية وعلى رأسهم الخليفة عبد الملك بن مروان ، لا سيما وأن منطقة الحجاز والتي تحوى الحرم المكي والحرم النبوي كانت تحت سيطرة خصوم الخلافة الأموية .

وربما كان لما ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية تأكيدا لما ذكرته حيث ذكر فى هذا الصدد عند حديثة عن أحداث العام الثالث والسبعون من الهجرة بقوله “وفيها ابتدأ عبد الملك بن مروان ببناء القبة على صخرة بيت المقدس وعمارة الجامع الاقصى ، وكملت عمارته فى سنة ثلاث وسبعين ، وكان السبب فى ذلك : أن عبد الله بن الزبير كان قد استولى على مكة ، وكان يخطب فى ايام منى وعرفة ، ومقام الناس بمكة وينال من عبد الملك ويذكر مساوئ بنى مروان ، ويقول : أن النبى (ص) لعن الحكم ، وكان يدعو الى نفسه وكان فصيحا ، فمال معظم أهل الشام اليه ، وبلغ ذلك عبد الملك فمنع الناس من الحج فضجوا ، فبنى القبة على الصخرة والجامع الاقصى ليشغلهم بذلك عن الحج ، ويستعطف قلوبهم ([5])

 المسجد الاقصى فى العصر الأموي

أما عن المسجد الاقصى فى العصر الأموي فقد أشار المؤرخ والأثري كرزويل الى اختلاف المصادر حول اعادة البناء الجامع فى العصر الأموي وذكر انه لو أخذنا بما جاء فى المراجع العربية التي تعالج هذة المسالة فإن الخليفة عبد الملك بن مروان هو بانى المسجد الاقصى ورجح كريزويل الفرض الثاني القائل بأن الوليد بن عبد الملك وليس عبد الملك بن مروان هو الذي اعاد بناء المسجد فى العصر الاموي واستند كريزويل فى ذلك الفرض على أحد اوراق البروى العربية المرسلة بين حاكم مصر قرة بن شريك ومن حاكم محافظة امروديتو ومصر العليا رص ورقة رقم 1403 والتى تشير الى اعالة العمال المهرة المستخدمين فى مسجد القدس ([6])

والواقع ان ما استند اليه العالم كريزويل وهو اوراق البردى لا تنهض واحدها دليلا على ان بأني المسجد الاقصى فى العصر الأموي هو الوليد بن عبد الملك ، فقد يكون الامر لا يعدو كونه اصلاح وتجديد وترميم للمبنى ، حيث أنه من المعروف ان عهد الوليد شهد اصلاح وتجديد العديد من العمائر الاسلامية فى الشام والحجاز ، فليس هناك ثمة نصا صريحا يشير الى ان الوليد هو مشيد الجامع وليس عبد الملك من مروان (الباحث)

والواقع ان الاراء فى هذا الأمر قد انقسمت الى ثلاثة اقسام فالقسم الأول من المؤرخين المسلمين ومنهم المقدسى وابن عساكر وابو المحاسن وابن تغرى بردي ومجير الدين العليمي ومعهم فوج vogae وبيذكر فقد ذهب هذا الفريق الى ان الخليفة عبد الملك بن مروان هو الذي بنى المسجد الاقصى ، واضاف آخرون منهم الى ان عبد الملك بن مروان قد بنى مسجدا صغيرا ملحقا الى مسجد عمر بن الخطاب ، وفى نفس المكان على انقاض الكنيسة التى كان قد أقامها الامبراطور جستنيان للسيدة العذراء

اما الفريق الثاني من المؤرخين مثل ابن البطريق وابن الفقيه ومعهم العالم كريزويل فيقولون بان الذي اقام المبنى الثاني للمسجد الاقصى فى العصر الاموي هو الوليد بن عبد الملك واستندوا الى ذلك كما سبق ان اشرت الى اوراق البردي الى عثر عليها فى الفيوم والتي تنص على ان والى مصر قرة بن شريك من ارسل بنائين وعمال مهرة للمشاركة فى بناء المسجد الاقصى لمدة اثنى عشرة شهرا وذلك عام 97هـ 712 – 716م ([7])

اما الفريق الثالث من المؤرخين فيرى ان عبد الملك بن مروان هو الذي امر ببناء مسجد بجوار مبنى عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، لكن البناء لم يتم الا فى عهد الوليد بن عبد الملك ([8])

والواقع ان الراى الاخر هو الاقرب للصواب لأن الدولة العربية شهدت فى عهد عبد الملك بن مروان نهضة فى مختلف المجالات وهو الذي شيد قبة الصخرة فليس من المستبعد ان يكون قد بدأ فى انشاء المسجد الاقصى ومات قبل اتمامه ويعلق على هذا الراي د. احمد رمضان بقوله “والواقع ان الراي القائل بان عبد الملك بن مروان هو الذي بدأ بناء المسجد واتمه الوليد خاصة اذا عرفنا ان الخليفة عبد الملك هو الذي انشا قبة الصخرة ، تلك الدرة فى جبين العمارة الاسلامية فكيف له أن يترك المسجد الاقصى ، كما بناه عمر بن الخطاب صغيرا متواضعا ، وهو يكاد يكون ملاصقا لقبة الصخرة . ([9])

عبد الملك وبناء المسجد الاقصى

وقد ذكر ابن كثير نقلا عن صاحب مرآة الزمان قوله فى حوادث عام 66هـ “وفيها ابتدأ عن الملك بن مروان ببناء القبة على صخرة بيت المقدس وعمارة الجامع الاقصى ، وكملت عمارته فى سنة ثلاث وسبعين وكان السبب فى ذلك ان عبد الله بن الزير كان قد استولى على مكة ، وكان طب فى ايام منى وعرفة ومقام الناس بمكة ، وينال من عبد الملك ويذكر مساوئ بن مروان ، وبلغ ذلك عبد الملك فمنع الناس من الحج فضجوا فبنى على الصخهرة والجامع الاقصى ليشغلهم بذلك عن الحج ويستعطف قلوبهم ([10])

ولما اراد عبد الملك عمارة بيت المقدس وجه إليه بالأموال والعمال ووكل بالعمل رجاء بن حيوه ويزيد بن سلام وجمع الصناع من اطراف البلاد وارسلهم الى بيت المقدس وجعل للمسجد القبة وفرش المسجد بانواع البسط الملونة ([11])

المسجد الاقصى فى عهد الوليد بن عبد الملك

ولقد اتم الوليد بن عبد الملك عمارة المسجد الاقصى فيما بين عام 90 ـ 96 هـ 709 – 715م ([12])

وتؤكد اوراق البردي التى عثر عليها فى الفيوم بمصر ان الوليد بن عبد الملك هو الذي اتم بناء المسجد الاقصى فى الوقت الذي كان يبني فيه الجامع الاموي بدمشق ، ففي كتاب قرة بن شريك والى قصر فى خلافة الوليد الى صاحب كورة اشقوة ، نراه يطلب عدة رجال من اماكن مختلفة للعمل فى بناء قصر الخليفة الوليد بن عبد الملك ، وفي كتاب اخر نرى قرة يطلب احد العمال ويحدد أجره للعمل لمدة ستة اشهر فى جامع بيت المقدس ، ونجد كتابا اخر نختص بالنفقه على الفعلة والعمال المهرة الذين يعملون فى جامع بيت المقدس وفى قصر امير المؤمنين ، وهناك كتب اخرى تختص بالصرف مع العمال الذين يعملون فى بيت المقدس أو دمشق او قصر أمير المؤمنين ([13])

 شكل المسجد الاقصى فى العصر الاموي

أشار كرزويل الى انه استنتج من وصف المقدس للمسجد الاقصى ان المسجد القديم ، كان ذو اقواس مرتكزة على الاعمدة الرخامية ، وممتدة من الشمال الى الجنوب ، وقد جرى دمجه فى مسجد المهدي ، ومثل هذه الاقواس لا تزال قائمة فى شرق وغرب الجزء المسقوف بالقبة .

وعندما أدخلت القبة ، أصبح من الضرورى اقامة دعائم شرق وغرب الاقواس المتصالبة ، التي تمتد حتى الجدران الجانبية ، وتتالف من سلسلة من الاقواس المرتكزة على دعائم مستقلة قائمة على جانبي العمود المقابل للأقواس الطولانية ، بينما الاقواس الاصلية محشورة من الاقواس المتصالبة خلال أعمال (1934 ـ 1038) حينما نزعت الكسوة الجصية ، استطاع هاملتون ان يرى أن اعمال البناء سبندلات الاقواس المتصالبة لا ترتبط باعمال بناء مستبدلات صف الاعمدة الطولى الأول شرقي القبة ، وهذا لا ينطبق على صف الاعمدة الثاني لان الاعمدة المتصالية هنا تبرز من نفس دعامات الاقواس الشمالية والجنوبية ، ولذلك ([14]) استنتج انه تضرر اكثر من الزلزال ، وأنه اعيد بناؤه ايام المهدي ، وهناك صف اعمدة ثالث ـ محجوب جزئيا بجدار ـ لا يزال قائما فى الجهة الشرقية .

وتم اكتشاف اخر تحت الارضية عندما ازيل جزء منها ، وجد جزء من الجدار الشمالى القديم فى بعض الحالات يرتفع مقدار من ماك واحد ـ وتم تتبعه المسافة 18م ويبلغ سمكه 1م وسطحه الجنوبي برغم 18.4م عن السطح الداخلى للجدار الشمالى الحالى وبالتالى فان المسجد القديم الاموي على ما يعتقد يبلغ امتداده 50.8 م من الشمال الى الجنوب بدلا من 69.2م كما انه لا يمكن تحديد عرضه ([15])

أن الصيغة الفعلية لمخطط المسجد فى العصر الأموي كانت دائما تثير قدرا كبيرا من الغموض والابهام ، فهو خلافا لجميع المساجد الجامعة لا يشغل كل الفضاء المحصورين الجدارين الشرقي  والغربي للحرم بل يحتل جانبا من المسافة الواقعة بينهما التي يقدر طوله بـ 281م ، وذلك لان مهمة تسقيف ذلك الفضاء بتلك الابعاد الكبيرة كان امرا مبالغا فيه فلا اعداد المسلمين فى القدس انذاك تتطلب تلك المساحة ولا يوجد ثمة مبرر مقنع فى صرف أموال اضافية لفضاء غير مستخدم بأكمله ، وبعبارة أخرى فإن تسقيف تلك المساحة بالكامل كان أمرا يفيض عن الحاجة وبالغ النفقة كما يقول عبد القادر الريحاوي .

ولقد اثارت وضعية المسجد تلك انظار الذين تناولوا وصف المسجد فكتب المقدسى عنه “والمغطى لا يتصل بالحائط ومن اجل هذا يقال لا يتم فيه صفا ابد” فيما يذكر المهلبى فى كتابة ” المسالك والمماليك ” بأن “ليس الرواق فى عرض الصحن … والثلث الآخر مكشوف لا رواق عليه” ([16])

ولقد وضع د. احمد فكرى وسما تصوريا اجتهاديا لتخطيط المسجد الاقصى فى العصر الاموي معتمدا على نتائج الحفائر التي أجريت فيه حيث ذكر انه كان يشغل مستطيلا مكون من بيت للصلاة مبلغ طول جدار القبلة فيه 65م وعرضه 5م يتكون من احدى عشرة بلاطة عرضية وعشر بلاطات طولية تمتد من الشمال الى الجنوب عمودية على جدار القبلة ، ولم يكن المحراب يتوسط جدار القبلة ، وكان المسجد يشتمل على احد وعشرين مدخلا منها احد عشر مدخلا فى الجدار الشرقي ، وعشرة فى الجدار الشمالى هذا هو تصور د أحمد فكرى عن المسجد الأقصى ى العصر الأموى([17])

ووفقا للمخطط الذي اعده د/ أحمد فكرى للمسجد فى العهد الاموي فإن مساحته وهي 50 × 65م تمثل كلها فضاء لبيت الصلاة من دون صحن وهذا الفضاء ينقسم الى أحد عشر اسكوبا تجتازه عشر بلاطات ، وامتدت عقود الظلة ببوائك عمودية على جدار القبلة ، كما ان المحراب فيه لم يكن يتوسط جدار القبلة بل أنه بجوار الدعامة الرابعة غرب ذلك الجدار ([18])

وعلى كل ينبغى الاعتراف بأن تناول مكونات المسجد الاقصى ابان التجديدات البنائية الاموية له سيكون عملا افتراضيا لا يتسم بالدقة المطلوبة التى توفرها عادة معطيات الأبحاث التاريخية والآثارية الخاصة بالمسجد وعناصره التصميمية .

وبغياب تلك المغطيات وسجلها الاثارى التوثيقي فلابد من التركيزو على اجتهادات ودارسى المسجد من الاثاريين وافتراضاتهم التخطيطية ([19]) .

الزخارف الاموية فى المسجد الاقصى

عند البحث في الفن الأموي فان اروع ما تبقى من المسجد الآقصى هو الالواح الخشبية المحفورة والمحفوظة حاليا فى المتحف الأثري فى القدس ، وفي متحف الحرم الشريف الذي تقع قرب المسجد الاقصى

وهذه الألواح مزخرفة بالحفر الغائر وعناصر نباتية من أرواق الكرمة والاغصان وورقة الاكانتس مما يشابه كثيرا الزخارف الموجودة فى قبة الصخرة ويجعلها من نتاج مدرسة واحدة وعصر واحد ، وتلعب الاغصان المزينة بالاوراق دوراً أساسيا فى تأطير العناصر الاساسية المؤلفة من زهرة او ورقة او يقوم بديل لهذه الاغصان اطر دائرية متضافرة مع بعضها مؤلفة من ثلاثة احزمة نافرة ، وثمة لوح او أكثر يشابه الى حد بعيد المحراب الصغير الموجود فى قبة الصخرة ، ومن المؤكد أن انجازه تم من قبل معلم واحد وتبدو بعض الالواح مؤلفة من معينات ذات ثلاثة أحزمة تتضافر مع بعضها ، وفي مركزها عنصر نباتي زنبقي ، ويحيطها زخرفة نباتية أصبحت فيما بعد اساسا للرقش العربى اللين ، وجميع هذه الالواح هي من خشب الصنوبر ، وكانت هذه الالواح تغطي أسفل الجدران كما ترى ما رغريت برشيم ، يؤكد ذلك للدعامات التي كانت تخترق الجدران والموجودة حلف الالواح، (20)