صلاح الدين واسترداد بيت المقدس

مما لاشك فيه ان نجاح صلاح الين فى انزال الهزيمة بالصليبين فى موقعه حطين وما اعقبها من فتح سريع لكثير من المدن والمعاقل الصليبية بالساحل لم يكن الا تمهيدا للاستيلاء على بيت المقدس ، فقد اطمأن صلاح الدين الى أنه لم يعد فى إمكان الصليبيين انقاذها خصوصا أنه اسر من الصليبيين الكثير ([1])

ولكن ما يهمنا فى الصدد هو ما فعله صلاح الدين بعد دخوله بيت المقدس بعد ان ظلت فى ايدي الصليبين منذ يوم الجمعة الخامس عشر من يوليو عام 1099م الثالث والعشرين من شعبان 492هـ حتى نجح صلاح الدين الايوبي فى استردادها بعد انتصاره على الصليبيين فى موقعة حطين 1187م حيث دخلها فاتحا ومستردا ، يوم الجمعة 2 اكتوبر عام 1187 الموافق 27 رجب عام 583هـ فى ليلة الاسراء والمعراج ، وضرب صلاح الدين المثل الواضح والكبير فى الفارق بين الحضارة الاسلامية والحضارة الاوربية فى العصور الوسطى ، فعلى حين غاص الصليبيون على أعقابهم فى دماء المسلمين ، فإن صلاح الدين أرسل رجالة للمناداة فى شوارع القدس بعدم الاعتداء على الصليبيين العزل ، وعدم الاعتداء على منازلهم ، وكذلك عدم اغتصاب ممتلكاتهم وأمر صلاح الدين بدفع فدية عمن لا يستطيع افتداء نفسه من الصليبيين ، وبلغت سماحة صلاح الدين مداها حين تغاضى فى النهاية عن حمل الصليبيين معهم لثرواتهم وللذهب والفضة والاحجار الكريمة والتحف التي امتلأت بها كنائس القدس وبيوت الصليبيين ، فأمر بعدم مصادراتها أو التعرض لها مبديا روحا تسامحية أدهشت الصليبيين والمسلمين ومظهرا الفارق الضخم بين سماحة وكرم الاسلام ، مقابل بربرية الغرب الاوربي فى العصور الوسطى ([2])

وفى استراد القدس يقول صاحب النوادر السلطانية” وكان تسلمه القدس فى يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب ، وليلته كانت ليلة المعراج المنصوص عليها فى القرآن الكريم ، فانظر الى هذا الاتفاق العجيب كيف يسر الله عوده الى أيدي المسلمين فى مثل زمان الاسراء بنبيهم (2) وكان فتوحا عظيما شهده من أهل العلم خلق عظيم ، ومن أرباب الخرق والطرق ، وذلك أن الناس لما بلغهم ما يسر الله على يده من فتوح الساحل ، وشاع قصده القدس قصده العلماء من مصر والشام بحيث لم يتخلف معروف من الحضور وارتفعت الأصوات بالضجيج والدعاء والتهليل والتكبير وخطب فيه وصليت فيه الجمعة يوم فتحة وحط الصليب الذي كان على الصخرة . ([3])

وهكذا فتحت القدس وأخذ صلاح الدين الايوبي مبانى وعمائر الحرم المقدس فوجد الفرنج قد بنوا منبرا ومذبحا فوق الصخرة وملؤها بالتماثيل ، فامر بازالتها وعفا على اثارها حتى اعاد المكان مسجدا اسلاميا كما كان فى عهد الدولة الفاطمية ، ولما كان الصليبيون قد اقاموا الكثير من الحوائط بداخل المسجد ليخفوا معالمه وشاراته الاسلامية ، لذلك فقد حرص صلاح الدين عندما وطأت اقدامه مبنى المسجد الاقصى على البحث عن محرابه وأمر بهدم الجدار الذي بني امامه لاخفائه وامر بترخيمه ونقش حول عقد بالفسيفساء المذهبة ما نصه :

“بسم الله الرحمن الرحيم ، أمر بتجديد هذا المحراب المقدس ، وعمارة المسجد الاقصى الذي هو على التقوى مؤسس، عبد الله وليه يوسف بن أيوب ابو المظفر الملك الناصر صلاح الدنيا والدين عندما فتحه الله على يديه فى سنة 583هـ . وهو يسأل الله اذاعة شكر هذه النعمة واجزال حظه من المغفرة والرحمة” ([4])

ولقد أشار الى ذلك ابن كثير في البدية والنهاية حيث ذكر “أن المسلمين نظفوا المسجد الاقصى مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير وخربت دور الداوية وكانوا قد بنوها غربى المحراب الكبير ، واتخذوا المحراب مشتى لعنهم الله ، فنظف ذلك كله ، وأعيد الى ما كان عليه فى الأيام الاسلامية ، وغسلت الصخرة بالماء الطاهر واعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر ، وأبرزت للناظرين ، وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين ، ووضع الصليب عن قبتها ، وعادت الى حرمتها ، وقد كان الفرنج قلعوا منها قطعا فباعوها من أهل البحور الجوانية بزنتها ذهبا ([5])

دخل صلاح الدين المسجد الاقصى يوم الجمعة 6اكتوبر رابع شعبان ليصلى في قبة الصخرة وأمر صلاح الدين على الفور لعمارة المسجد الاقصى واستنفاد الوسع فى تحسينه وترصيفه وتدقيق نقوشه ([6])

ولقد أفاض المؤرخون فى وصف ما فعله المسلمون بالصخرة بعد فتح القدس وكيف كانت فرحتهم ، حتى أن الصخرة قد غسلت بعدة أحمال ماء ورد وطهر حياطنها ، وغسل جدرانها ، ثم بخرها بمجامر الطيب ” ([7])

منبر نورالدين

ثم فكر صلاح الدين الايوبي فى عمل منبر يليق بالجامع الاقصى وذكر ابن واصل فى كتابه مفرج الكروب ” أن السلطان امر ان يعمل له منبرا ، فقيل له ، أن نور الدين محمود كان قد عمل بحلب منبرا أمر الصناع بالمبالغة فى تحسينه واتقانه وقال : هذا قد عملنا لينصب بالبيت المقدس ، فعمله النجارون فى عدة سنين لم يعمل فى الاسلام مثله ، فأمر باحضاره فحمل من حلب ونصب بالقدس ، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة ، وكان هذا من كرامات نور الدين وحسن مقاصده رحمة الله” ([8])

وقد كتب صلاح الدين على هذا المنبر ما نصه “بسم الله الرحمن الرحيم أمر بعمله العبد الفقير الى رحمته ، الذاكر لنعمته المجاهد فى سبيله ، المراتبط لاعداء دينه ، الملك العادل نور الدين ، ذكر الاسلام والمسلمين ، منصف المظلومين من الظالمين ، أبو القاسم محمود بن زنكي ابو سيف ناصر أمير المؤمنين اعز الله انصاره وأدام اقتداره ، وأعلى منارة ونشر فى الخافقين الويته وأعلامه ، وأعز اولياء دولته ، وأزال كفار نعمته وفتح له وعلى يديه وذلك سنة 564هـ ([9])

ولقد بذل صلاح الدين الايوبي جهدا كبيرا فى عمارة المسجد الاقصى وتوسيعه وتحسينه ذكر ابن الاثير فى الكامل ” فأحضر له من الرخام ما لا يوجد مثله ومن الفص المذهب القسطنطيني وغير ذلك من المواد للتزيين ما لا يمكن وصفه ، وشرع فى عمارته وتزيينه وازالة ما على جدرانه من الصور والتماثيل ([10])

وبذلك نرى أن اهتمام صلاح الدين بالصخرة والمسجد الاقصى بعد فتح القدس كان عظيما فأصلح المسجد ووسعه وازال كل مظهر من مظاهر التعديات الصليبية عليه ورخمة وعمره ونصب المنبر ، واظهر المحراب وفرشه بالبسط الرفيعة بدلا من الحصر والبوارى وكسا قبته بالفسيفساء .

وتحدثنا الكثير من المصادر التاريخية عن الاهتمام الكبير الذي اولاه بنو ايوب بعد صلاح الدين بعمارة الاقصى وانهم كانوا يكنسوه بأيديهم وذلك تأسيا بما فعله صلاح الدين الذي ضرب لبني ايوب المثل فى الحفاظ على هذه المقدسات فذكر ابن كثير فى البداية والنهاية “أن السلطان صلاح الدين ازال ما حول الصخرة المعظمة من المنكرات والصور والصلبان وطهرها بعدما كانت جيفة ، وأظهرها بعد ما كانت خفية مستورة غير مرئية ، وامر الفقيه عيسى الهكارى ان يعمل حولها شبابيك من حديد ، ورتب لها اماما راتبا ، وقف عليه ([11]) رزقا جيدا وكذلك أمام الاقصى ، وعمل للشافعية مدرسة فقال لها : الصلاحية والناصرية ايضا ، وكان موضعها كنيسة ووقف على الصوفية رباطا ، وأجرى على الفقهاء والفقراء الجوامك وأرصد الختم والربعات فى أرجاء المسجد الاقصى والصخرة ليقرأ فيها المقيمون والزائرون .

وهناك الكتابات التي تؤيد وتسجل ما قام به صلاح الدين الايوبي من اصلاح وتجديد للقبة والصخرة حيث يوجد نص كتابى داخل القبة نصه “بسم الله الرحمن الرحيم أمر بتجديد تذهيب هذه القبة الشريفة مولانا السلطان الملك الناصر العالم العادل العامل صلاح الدين يوسف بن ايوب تغمده الله برحمته وذلك فى شور سنة ست وثمانين وخمسمائة “.

ولقد استمر الايوبيون بعد صلاح الدين فى الاهتمام بقبة الصخرة والحفاظ عليها حيث تشير المصادر التاريخية الى أن معظمهم كانوا يكنسون الصخرة بأيديهم ثم يغسلوها بماء الورد باستمرار لتظل نظيفة معطرة ، كما ان الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين 589 ـ 595هـ 1193 – 1198م قام بوضع الحاجز الخشبي الذي يحيط بالصخرة لحمايتها بدلا من الحاجز الحديدي الذي وضعه الصليبيون . ([12])

ويذكر ابن كثير فى البداية والنهاية بذكر أول جمعة اقيمت ببيت المقدس بعد فتحه فى الدولة الصلاحية فيقول “لما تطهر بيت المقدس مما كان فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان والقساقيس ، ودخله أهل الايمان ، ونودي بالآذان وقرئ القرآن ووحد الرحمن ، كان اول جمعة اقيمت فى اليوم الرابع من شعبان ، بعد يوم الفتح بثمان ، فنصب المنبر الى جانب المحراب ، وبسطت البسط وعلقت القناديل وتلى التنزيل ، وجاء الحق وبطلت الاباطيل ، وضعت السجدات وكثرت السجدات وتنوعت العبادات ، وارتفعت الدعوات ونزلت البركات ، وانجلت الكربات واقيمت الصلوات ، وامتلأ الجامع وسالت لرقة القلوب المدامع . ولما اذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح فى ذلك الحال ، ولم يكن عين خطيب فبرز من السلطان المرسوم الصلاحي وهو فى قبة الصخرة ان يكون القاضى محي الدين بن الذكى خطيبا ([13])

ومن سلاطين البيت الايوبي الذين تخصهم المصادر التاريخية بالذكر من حيث الاهتمام بعمارة المسجد الاقصى هو الملك المعظم عيسى ، الذي اضاف اليه فى غضون سنة 614هـ 1217م الرواق الذي يكون الواجهة الشمالية للمسجد ، وهو يتألف من سبعة عقود يقابل كل واحد منها بابا من أبواب المسجد السبعة ، كما تشهد بذلك اللوحة التأسيسة التي تزين واجهة الرواق الاوسط للمسجد ([14])

ولقد كان المعظم عيسى من المحبين للعلم فيذكر ابن واصل فى مفرج الكروب ” أن الملك المعظم عيسى قد م للقدس سنة 623هـ 1226م وجلس خارج الصخرة الشريفة ، واستدعى العلماء وباحثهم فى مسائل لغوية وفقهية ([15])

وفى سنة 626هـ 1228م اضطر الملك الكامل الأيوبي الى قبول صلح مؤقت مع الامبراطور فريدريك تنازل بموجبه عن القدس ، فلما خرج سكانها من العرب خربت المدينة مرة ثانية وتدهورت حالة مبانيها ومقدساتها ([16])

لقد كانت عودة المسجد الاقصى الى المسلمين فى العصر الايوبي ايذانا بالرعاية والاهتمام به ورفع ما عليه من اضافات الصليبيين وتعدياتهم ومنذ اللحظة الاولى لاستعادة الاقصى عمل صلاح الدين بجهد فاق التصور لاعادة مرافق المسجد الاقصى وقبة الصخرة الى واقعها الاسلامي ومع هذا فقد بدأت العمارة الايوبية تشهد تطورا معماريا أبرز نمطا خاصا عن هذه الفترة .

وبدأ العمل فى المسجد الاقصى ثم تطور تورا كبيرا فى عهد السلطان المعظم عيسى الذي رمم وبنى مواقع كثيرة داخل منطقة المسجد عام 1291م ([17])

ولقد شمل الايوبيين بعد صلاح الدين الايوبي المسجد الاقصى بالرعاية والعناية والاهتمام فنجد العادل سيف الدين ابو بكر ، والملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهشاه والملك الافضل نور الدين على والملك العزيز عثمان والملك المعظم عيسى ، كل هؤلاء الملوك تركوا فى المسجد اثارا تدل على عنايتهم به ، وكان بعضهم يتولى بنفسه غسله بماء الورد .

وان كانت إضافة الملك المعظم عيسى فى الجامع كانت أهم واكبر اضافات العصر الايوبي حيث اضاف رواقا كاملا يكون الواجهة الشمالية للمسجد ، وهذا الرواق يشتمل على سبع قباب وفيه الابواب الخشبية التي ما زالت موجودة الى الآن عند مدخل المسجد من الجهة الشمالية ([18])